وهذا التكلف في إقامة حروف القرآن، يشغل عن الهدف الأسمى والمطلب الأسنى الذي أُنزل القرآن من أجله، ألا وهو: تدبر آياته، والعمل به، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه وحفظ حدوده وإقامتها كما أمر الله فيه.
وقالَ ابنُ الجَزَرِيِّ (ت: ٨٣٣ هـ) - رحمه الله - في مُقَدّمتِهِ:
مُكَمِّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ. (١)
وفي وصف القراءة الصحيحة يقول مَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ت: ٤٣٧ هـ) - رَحِمَهُ اللهُ-:
يجب على القارئ أن يتَوسَّطَ اللفظَ بها، ولا يتعسَّف في شِدَّة إخراجها إذا نَطَق بها، لكنْ يخرِجها بلطافةٍ ورِفْق، لأنها حرْفٌ بَعُد مَخْرَجه، فصَعُب اللفظُ بها لصعوبته. (٢)
يقول ابن الجزري (ت: ٨٣٣ هـ) - رحمه الله -:
فليسَ التجويدُ: بتمضيغ اللِّسَان، ولا بتقعيرِ الفَمِ ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصوتِ، ولا بتمطيط المشدد، ولا بتقطيع المَدِّ، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحصرَمة الرَّاءات، قِراءةً تنفر منها الطِباعُ، وتمُجُّها القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلةُ، العذبةُ، الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغَ فيها، ولا لَوكَ ولا تعَسُّفَ، ولا تكلُّف، ولا تصنُّعَ، ولا تنطُّعَ، ولا تخرج عن طباعِ العرب، وكلامِ الفصحاء بوجْهٍ من وجوه القراءاتِ والأداء.
فالتجويد: هو حلية التلاوة وزينة القراءة وهو اعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف …
ثم يقول أيضًا:
وهذه سنة الله تبارك وتعالى فيمن يقرأ القرآن مجودًا مصححًا كما أنزل تلتذ الاسماع بتلاوته وتخشع القلوب عند قراءته حتى يكاد أن يسلب العقول ويأخذ بالألباب؛ سر من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه؛ ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ فكان إذا قرأ أطرب المسامع وأخذ من القلوب بالمجامع وكان الخلق يزدحمون عليه ويجتمعون على الاجتماع إليه … مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان عارفين بالمقامات والألحان لخروجهم عن التجويد والإتقان … وأما اليوم
فهذا باب أغلق وطريق سد نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم. (٣)
(١) - مقدمة ابن الجزري، باب التجويد، البيت رقم: (٣٢).
(٢) - الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، لمَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ص: ١٤٥).
(٣) يُنظر: النشر في القراءات العشر (١/ ١٦٥)، اللآلئ السنية شرح المقدمة الجزرية (ص: ٦٩).