وفي هذا يقول ابن قتيبة (ت: ٢٧٦ هـ) - رحمه الله -:
فكان من تيسيره-سبحانه- أن أمره- صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم: فالهذليّ يقرأ: "عتّى حين" يريد (حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون: ٥٤)؛ لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ: (تِعْلَمونَ) و (تِعْلَم) و (تِسْوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران: ١٠٦)، و (أَلَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (يس: ٦٠). والتّميميّ يهمز، والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) (البقرة: ١١) (وَغِيضَ الْماءُ) (هود: ٤٤) بإشمام الضم مع الكسر، و (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) (يوسف: ٦٥) بإشمام الكسر مع الضم، و (مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا) (يوسف: ١١) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متّسعًا في اللغات، ومتصرّفًا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين، حين أجاز لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجّهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر أمور دينهم. (١)
وفي نحو ذلك يقول القاسم بن ثابت العَوْفي السرَقسطي: (ت: ٣٠٢ هـ) -رحمه الله-:
إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - والعرب متناؤون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة ذلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملاً ثقيلاً، وعالج منه عبئًا شديدًا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد
التمرين الشديد والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم. (٢)
وإن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبعة إنما كانت في حدود ما نزل به جبريل، وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بدليل أن كلّا من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله، وأن النبي كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله: "هكذا أنزلت" كما في حديث عمر وهشام، وما يفيده لفظ الإنزال الذي جاءت به جميع روايات الحديث، وليس ذلك إلا التوقيف بالسماع من الرسول، وسماع الرسول من جبريل.
(١) - تأويل مشكل القرآن، الإمام أبي محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ص: ٣٢، دار الكتب العلمية، ٢٠٠٧ م.
(٢) - يُنظر: المرشد الوجيز لأبي شامة (ص: ١٢٨).