ثالثًا: أن الغاية التي كان يعارض جبريلُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ كل سنة من أجلها لم تكن إلا لأمرين عظيمين:
أما الأمر الأول: فلاستثبات حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن وفق ما أوحاه الله إليه بواسطة جبريل، وهي كانت كذلك بمثابة تحقيق الضمان والأمان لحفظ القرآن من أي تغيير أو تبديل بزيادة أو نقصان.
وأما الأمر الثاني: فلتثبيت وإبقاء ما لم ينسخ من القرآن، ونسخ ما يريد الله تعالى نسخه منه.
وفي نحو ذلك يقول الحافظ ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ) - رحمه الله -:
جبريل كان يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما: تعاهده.
والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ. (١)
رابعًا: وإنما سميت العرضة "الأخيرة" بذلك لكونها المعارضة الأخيرة بالقرآن بين جبريل-عليه السلام-وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وكانت المعارضة الأخيرة كالمراجعة النهائية والختامية للقرآن ليبقى محفوظًا في صدره الشريف-صلى الله عليه وسلم-، كما كانت كالتوديع للوحي كذلك، لِيُرفع ما نسخ منه نهائيًا، ويبقى ما ثبت قرآنيته من كل ما أوحاه الله إليه ولم تنسخ تلاوته، وليبقى محفوظًا كذلك إلى ما شاء الله أن يبقى حتى يرفع في آخر الزمان.
خامسًا: لقد ثبت معنا أن القول بأن جبريلَ كان يعارض النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام في رمضان بحرف من الأحرف السبعة أمر غير صحيح البتة، ويترتب على ذلك، إضافة لما سبق ذكره آنفًا من بيان الغاية من المعارضة الأخيرة، الوصول إلى حقيقة هامة في هذا المبحث ألا وهي: إن تلك المعارضة كانت على حرف واحد ألا وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداءً، وهو الحرف المنزل الذي جمع وكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أول نزوله، والذي نسخت
منه الصحف البكرية بعد جمع شتاتها ثم نسخ المصحفُ الإمام من تلك الصحف، فكان جمع عثمان ما تواتر نقله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما استقر في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته، ولا نعلم أي دليل يدل على أن العرضة الأخيرة كانت بأكثر من حرف أبدًا، وهذا القول إنما صدر عن تصور غير صائب في فهم الأحرف السبعة وعن العلاقة بينها بين العرضة الأخيرة.
(١) - فتح الباري: (٩/ ٥).