فابن جرير قد فسر" التغني" بالغناء، وابن حجر قد فسر حسن الصوت بـ "الترنم" و" التطريب" وإنما كان ذلك كله وفق ما دلت عليه اللغة.
غير إن المخالفين قد حملوه هذه الألفاظ وأمثالها على المعنى العامي الشائع والدارج في استعمال الناس له، ولو أنهم رجعوا إلى ما دلت عليه تلك الألفاظ من معاني في لغة العرب، أظن لانتهى بهم المطاف وظهر لهم الحق جليًا، إن كانوا ممن يبحث عن الحق ويتجرد عن الهوى.
المطلب الثالث: تيقظ السلف مبكرًا للخلط في مفاهيم بعض الألفاظ
يقظة السلف لمثل هذا مبكرًا:
ومن أجل هذا وأمثاله ورد النهي عن بعض السلف التحديث ببعض هذه الأحاديث التي فيها الترغيب في التغني بالقرآن وتحسين الصوت به خشية أن تحمل تلك النصوص على غير المراد منها، كالذي نحن بصدده من حمل تلك الألفاظ على جواز تعاطي تلك الألحان الموسومة بـ" المقامات الموسيقية" التي هي من خصائص أهل الفسق والخنا ممن يتعاطون الغناء الفاحش المقرون بالمعازف.
قال أبو عبيد القاسم بن سلاَّم (ت: ٢٢٤ هـ) -رحمه الله-:
حدثني يحيى بن سعيد القطان عن شُعبة بن الحجَّاج قال: "نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم" (١).
قال أبو عبيد- رحمه الله-:
وإنما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذه الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدث به. (٢)
فحَمْلُ هذه الألفاظ العربية والاستدلال والاحتجاج بها على جواز استعمال "المقامات الموسيقية" وقراءة القرآن بها وإباحتها، بورود مثلها في بعض الأحاديث واستعمال أهل العلم لها، فلاشك في أن هذا خطأ ظاهر جلي، وقد نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن كثير وغيرهم من أهل العلم الأثبات.
المطلب الرابع: حَسْمُ القول في "المقامات الموسيقية"
حَسْمُ ابنِ القيم -رحمه الله- للخلاف في هذه المسألة:
وقد حَسَمَ الإمامُ ابن القيم الخلاف في هذه المسألة، وذكر إجماع السلف على
(١) أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٧٥٤٤)، من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه، وأخرجه موصولاً أبو داود (١٤٦٨)، والنسائي (١٠١٥)، وابن ماجه (١٣٤٢)، وأحمد (١٨٥١٧) مختصرا، والحاكم (٢١٢٥) واللفظ له،. وإسناده صحيحٍ، وأصله في صفة الصلاة للألباني (٢/ ٥٧٠).
(٢) فضائل القرآن لأبي عبيد (١/ ٣٣٥).