مطلب: أبرز من زكاهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ *
أولًا: التزكيات الجماعية
فقد زكى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جمعًا ممن تميزوا في التلقي عنه، وممن زكاهم تزكية جماعية لسبقهم وفضلهم أربعة نفر.
فقد ثبت في الصحيحين أنه ذُكِرَ عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، فَقالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لا أزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أرْبَعَةٍ مِنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - فَبَدَأَ به -، وسَالِمٍ، مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، ومُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ. (١)
وهذه التزكيات الجماعية لهؤلاء الأربعة نفر من الصحابة هي بمثابة الإجازة، فقوله (خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أرْبَعَةٍ) يُعد إجازة صريحة، كما يُعد تزكية لهم لا تعلوها تزكية، حيث جاء الأمر بالأخذ عنهم بلفظ صريح من النبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثانيًا: تزكية أبيِّ بن كعب -رضي الله عنه-:
ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لِأُبَيٍّ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ قالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لي فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي، قالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عليه: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ) (البينة: ١). (٢)
وقد ثبت عند الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ..... وأقرؤُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كعبٍ .... ". (٣)
وهذه لا شك تزكية صريحة لسيد القراء رضي الله عنه.
ثالثًا: تزكية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-
ثبت في المسند بسند صحيح عن زر بن حبيش من حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: .... من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد ..... (٤)
وهذه تزكية قل أن تعلوها تزكية وإن كانت، ومع ذلك فهي منقبةٌ عظيمةٌ جليلة القدر.
وها هو عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- يقول عن نفسه:
"والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت،
ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه". (٥)
عن شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: خطبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ-رضي الله عنهم- فقَالَ:
"وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ".
قالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا، يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ. (٦)
رابعًا: تزكية أبيِ موسى الأشعري - رضي الله عنه-
ولقد استمع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقراءة أَبِي مُوسَى ثم قَالَ له: "لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " (٧)،
ومجرد حرصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الاستماع لقراءة أَبِي مُوسَى يُعد تزكية من أعلى التزكيات.
خامسًا: تزكية مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنهما-
لقد أرسل النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعبَ بن عمير العَبْدري وعبدَ الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما ليعلما الناسَ القرآنَ في المدينة قبل هجرته، ولاشك في أن إرسالهما للتعليم والقيام بهذه المهمة الجليلة يُعد تزكية لهما.
وقد ثبت عند البخاري من حديث البَرَاء بْن عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ … (٨).
سادسًا: تزكية عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام - رضي الله عنهم-
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمِعتُ هشامَ بنَ حَكيمِ بنِ حزامٍ يقرأُ سورةَ الفرقانِ، فقرأَ فيها حُروفًا لم يَكُنْ نبيُّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أقرأَنيها، قُلتُ: مَنْ أقرأَكَ هذِهِ السُّورةَ؟ قالَ: رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، قُلتُ: كذبتَ، ما هَكَذا أقرأَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ! فَأخذتُ بيدِهِ أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّكَ أقرأتَني سورةَ الفرقانِ، وإنِّي سمِعتُ هذا يقرأُ فيها حروفًا لم تَكُنْ أقرأتَنيها! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: اقرأ يا هشامُ. فقرأَ كما كانَ يقرأُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ: اقرَأ يا عمرُ. فقرأتُ، فقالَ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ: إنَّ القرآنَ أُنْزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ. (٩).
فقوله صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: "اقرأ يا هشامُ" ....... ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت". ثمَّ قوله: "اقرَأ يا عمرُ ...... ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت"، فهذه تزكية لهما تدلل على صحة قراءتيهما.
وغير هذه التزكيات وردًا كثيرًا على لسان من أُنْزِل عليه القرآنِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
مطلب: قدر ومكانة التزكيات النبوية *
وهذه التزكيات النبوية الواردة في الأحاديث السابقة تدل دلالة واضحة بينة على تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك النفر من أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهي تزكيات بمثابة ومكانة الإجازات اللفظية المتعارف عليها عند أهل العلم عمومًا وعند أهل الإقراء خصوصًا، وهي وإن كانت تزكيات، فهي في حكم الإجازات اللفظية، ولا شك في أن تلك التزكيات والإجازات اللفظية لها مكانتها وقدرها بل وتقدمها على الإجازات الخطية، وهي تعد بمثابة إجازات سمعية، وأن لها قدرها ومكانتها باعتبار قدر ومكانة خير مُجِيزٍ وخير مُجَازٍ.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قد زكى جمعًا من أصحابه غير هؤلاء وأثنى على قراءتهم وتلاوتهم كذلك.
ومن أبرز هؤلاء زيد بن ثابت الذي - قيل أنه- حضر العرضة الأخيرة (١٠) ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف. (١١).
وكذلك تزكية كُتَّابِ الوحي وهم جمع غفير، فمنهم من كان يكتب في بعض الأحايين، ومنهم من كان مستديمًا على كتابة الوحي ومتفرِّغًا ومتخصِّصاً له، وهؤلاء الكُتَّابِ منهم من اتخذهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، ومنهم من اتخذهم بعد الهجرة في المدينة وأضافهم إليهم، ومنهم من اتخذهم بعد الحديبية وأضافهم إليهم كذلك، وقد ذكرهم محمود شاكر في "التاريخ الإسلامي" بأسمائهم. (١٢).
واتخاذ هؤلاء الكُتَّاب للوحي يعُد تزكية لا تعلوها تزكية، حيث ائتمنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على كتابة الوحي لعلمهم بالكتاب ولحسن ديانتهم وأمانتهم.
(١) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب أُبي بن كعب (٧٧٩) رقم الحديث (٣٨٠٨)، والترمذي في جامعه، كتاب المناقب، باب: مناقب عبدالله بن مسعود (٨٦٤) برقم (٣٨١٠)، وقال: "حديث حسن صحيح"، وأحمد في مسنده (٢/ ١٦٣).
(٢) رواه البخاري (٤٩٦٠) واللفظ له، ومسلم (٧٩٩). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) رواه الترمذي (٣٧٩١)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٨٢٤٢)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (٣٧٩١).
(٤) مسند الإمام أحمد ٧/ ٣٥٩ رقم ٤٣٤٠. وقال شعيب الأرناؤوط ومن معه: " صحيح بشواهده، وهذا إسناد حسن ". وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة ٥/ ٣٧٩ رقم ٢٣٠١.
(٥) -صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن (٤٧١٦)
(٦) -صحيح البخاري، كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ-بَاب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى، حديث رقم: (٤٦٤١).
(٧) - صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم ٧٩٣.
(٨) - صحيح البخاري (٣٩٢٥)، ويُنظر: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، كتاب النبوة والرسالة (٣/ ٢٣٨).
(٩) أخرجه البخاري (٢٤١٩)، ومسلم (٨١٨)، وأبو داود (١٤٧٥)، والترمذي (٢٩٤٣)، والنسائي (٩٣٦) واللفظ له، وأحمد (١٥٨).
(١٠) وثبوت شهود زيد بن ثابت للعرضة الأخيرة محل نظر عند أهل التحقيق لضعف الروايات الواردة فيها، أما الثابت بأسانيد ثابتة صحاح فهو: شهود عبد الله بن مسعود لها، وأما شهود زيد لها فمشتهر فحسب، ومع اشتهاره فالباحث لم يقف على إسناد ثابت صحيح يُعول عليه في شهوده للعرضة الأخيرة إلا ما أشيع في مصنفات علوم القرآن وبعض كتب التفسير.
ولذا قال البغوي في " شرح السنة" (٤/ ٥٢٥) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي. فرواها بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
وما يُذْكَرُ من شهود زيد للعرضة الأخيرة في طيات البحث فإنما يُذْكَرُ تمشيًا مع ما أشيع واشتهر واستفاض لا على ما ثبت واستقر، الباحث.
(١١) - رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (١/ ٥٩٨) ح ٣٤١٢، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (٣/ ٧)، وكتاب المناقب (٤/ ٣٦).
(١٢) التاريخ الإسلامي ـ محمود شاكر، (ص ٩٣٧ - ٣٨٠).
* (تعليق الشاملة): هذان المطلبان ليسا في المطبوع من المجلة وهما ثابتان في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -