هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقديرٍ أو تدبيرٍ منِّي، بل على عكس ما قدرتُ ودبرت، ولكن الله إذا أراد أمراً قدّره، وهيأ له أسبابه، فمن ذا الذي أمسك ما سيّره، أو قدّم ما أخره، سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه.
اندفعتُ في طريقي مع إمام الحرمين في صحبة طويلة، عشت معه في (نيسابور) حيث نشأ، ورأيت بيته حيث درج، وصَحِبْته إلى مجالس شيوخه، ومدارس أساتذته، ثم جلست إليه مع تلاميذه نسمع له، حيث أُجلس للتدريس وهو في نحو العشرين من عمره، وأَصَخْت إليه، وهو يخطب بالجامع المنيعي (أكبر جوامع نيسابور)، ورأيته والناس حوله يبكون ببكائه في مجالس وعظه وتذكيره.
ثم رأيته يصول ويجول في ميدان المناظرة يقمع دعاة الفتنة، ويرد شبهاتِ الزائغين، ويكشف زيفَ المبتدعين.
ثم رأيته يصطلي بنار المحنة ولهيبها، فيضطر للهجرة، ويصابر ويصبر، ويحتسب، من غير أن يتزعزع، أو يتلجلج.
ثم تتبّعتُ آثاره ومصنفاتِه، ورأيت كيف جال في أكثر من علم، وبرع في أكثر من فن، فخلف مصنفاتٍ تربو على الأربعين عدّاً، منها ما يصل إلى نحو عشرين مجلداً، أسعفتنا الأقدار ببعض هذه المصنفات، فسلمت من المحن التي ابتلي بها تراث أمتنا، وبعضها سمعنا به ولمَّا نره بعد.
وأخذتُ مع هذا أعالج كتابه (البرهان) وأمازجُه، وأطيل الإصغاء؛ محاولاً أن أعي ما يريد الإمام أن يقوله في (لغز الأمة) (١)، وما زلت أسمع من الإمام وأُنصت إليه سنوات، حتى حسبتُ أنني فهمت عنه، وعرفت ماذا يريد أن يقول في كتابه.
كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبعَ سنواتٍ مباركات، وكان من ثمرتها:
(١) لغز الأمة هو اللقب أو الاسم الذي أطلقه السبكي على البرهان. (الطبقات: ٥/ ١٩٢).