* وأحياناً يُخدع الباحث والمؤرخ بكثرة الترداد في الكتب والمصادر، وتبدو له القضية مجمعاً عليها؛ فينقل ذلك مؤكداً له، معتداً به، ويرتب عليه من النتائج والآثار ما يرتب.
على حين لو عاد إلى أصول المسألة، وتتبع جذورها، لوجد هذه الكثرة الكاثرة -من القائلين بها، المردّدين لها- ترجع إلى راوٍ واحد، وعنه أخذ الآخذون، وأشاع المشيعون. ومثال ذلك: هذا الخبر المستبشع، الذي لا يصح في عقلٍ سليم، وأعني به ما قيل عن وقعة الحرة، وأن قائد يزيد بن معاوية أباح المدينة لجنوده ثلاثة أيام حتى ولدت خمسة آلاف عذراء بعد تسعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم.
هذا الخبر البالغ البشاعة ذاع وانتشر، وأصبح مسطوراً في معظم المصادر والمراجع، وربما كان هذا الشيوع بسبب غرابته وبشاعته؛ فللناس ولوع برواية الغرائب والعجائب، كما يقول ابن خلدون.
على حين عند الفحص والبحث، وتتبع جذور الخبر وأصوله، تجد أنه لا أصل له؛ فلم يروه إلا راوٍ واحدٌ تالفٌ كذاب، هو أبو مخنف، لوط بن يحيى، أخباري تالف، لا يوثق به، قال فيه ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم (١).
وإنا لنعجب من ترديد هذا الخبر قديماً وحديثاً، مع أنه يحمل في ثناياه أدلة كذبه واختلاقه؛ فهذا الجيش الذي أُلصقت به هذه الفرية كان كله من الصحابة والتابعين؛ فكيف يقبل العقل أن يَفْجروا بعذارى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن أيضاً من بنات الصحابة والتابعين.
هذا كله على فرضٍ مستحيلٍ، وهو أن قائد الجيش: مسلم بن عقبة المرّي، وهو العربي القرشي الصحابي، الذي نيف على التسعين من عمره، قد صدر منه الإباحة لجنوده، وما كان هذا من شيم العرب في جاهليتهم وحروبهم القبلية، فكيف يكون منهم هذا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام!! أليس العربي الجاهلي هو الذي كان يقول:
(١) ميزان الاعتدال للذهبي: ٣/ ٤٢٠.