ولكن لو تصورت جماعة في بادية أو قرية ليس عندهم مصدر للماء إلا بئر، منه يستقون ويتطهرون، فإذا وقعت فيه فَأْرةٌ وماتت فيه، وتحللت، فأية كارثة تحل بهم -وما أكثر ما كان يحدث هذا- فكيف يطهرون هذه البئر؟ وكم دلواً ينزحون؟ ومتى يصلون إلى يقين الطهارة؟ والماء يتجدد ويختلط طاهره الذي يَنْبع بالمتنجس والنجاسة تفتتت وتهرّأت في الماء.
كارثة تتكرر في هذه البيئات، وكان بعض الأئمة يُفتي بطَمّ البئر، وحفر غيرها!! وإلى أن يتم حفر غيرها ماذا يفعل الناس؟
ولكن إمام الحرمين يرى "أن يُنزح مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارِك مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات، وهي تنزح، فتطهر".
ثم قرّب هذه الصورة بتمثيل عملي عجيب، حيث قال: " وإن أراد الإنسان أن يقف على حقيقة هذا اتخذ طاساً مثقوباً، وسدّ ثُقبته، وصب فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن، وفتت فيه شيئاًً، وفتح الثقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدّر عنده ماء الطاس أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فليتخذ ذلك دستوره في ماء البئر، ويقيس فورانَ العيون وجمةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً ".
تأمل كيف صوّر نزحَ البئر، وتطهيرَ مائه من هذه النجاسة التي تفتتت وانتشرت، صوّر ذلك بهذا الجهاز البديع الذي اخترعه؛ حتى يؤكد إمكان تحقيق التطهير بهذه الطريقة.
* والأمثلة على هذه البراعة كثيرة بين يديك، وفيما ذكرناه الكفاية لإيضاح المعنى الذي نريده.
* ومما يستحق أن نسجله هنا أننا كنا نعجب من براعة الإمام الغزالي في هذا الباب، وبخاصة في كتابه (المنقذ من الضلال) و (تهافت الفلاسفة)، حتى بلغ بي