وإن قلنا: تصح، فهل يفتقر انبرامها إلى قبض الدين واستيفائه، حتى تكون الهبة جائزةً (١)، يبطلها الواهب قبل القبض الحسي؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا بد من القبض في الانبرام، وهو قياس الهبات.
والوجه الثاني - أنه لا يفتقر إلى القبض المحسوس، بل تنبرم الهبة قبل استيفاء الدين.
ثم من أصحابنا من قال: تنبرم بنفس الإيجاب والقبول، ومقصود هذه الهبة أن يصير المتَّهب بعد الهبة كالواهب قبل الهبة، ومعلوم أن الواهب كان يستحق الدين في الذمة من غير قبض، فعلى هذا تنزل هبة الدين منزلة الحوالة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره العراقيون على قريبٍ من الوجه الذي ذكرناه حكاية عن صاحب التقريب.
ومن أصحابنا من قال: لابد من تسليطٍ بعد الهبة، وهو في حكم الإقباض بالقول، فتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، ثم يقول الواهب بعدهما دونك والدين، فاستوفه، فقد سلطتك عليه، ويضاهي هذا التخلية في الأعيان التي لا تقبل النقلَ.
٥٨٤٠ - وخرّج صاحب التقريب التصدقَ بالدين، حتى يقع عن الصدقة المفروضة إذا نواها- على هذا القياس؛ حتى إذا صحَّحْنا الهبة من غير استيفاء، قلنا على ذلك: لو كان مال الرجل ديناً، فتصدق بشيء منه على مستحقِّي الزكاة، وقع ذلك موقع الاعتداد والاحتساب. ولو كان له على مسكينٍ دينٌ، فوهبه منه عن حساب الزكاة، لم يقع الموقع؛ فإن هذا إبراء، وليس بتمليك على الحقيقة، وتنزيل الإبراء منزلة التمليك من باب الإبدال في الزكوات، ولا مساغ لها عند الشافعي. وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمة الله عليه يمنع ذلك، مع توسّعه في إقامة غير المنصوص عليه مقام المنصوص عليه.
٥٨٤١ - ومما يتصل بذلك رهن الدين، وقد قدمنا في كتاب الرهن منعه، وهو الأصل، ولكن خرّج الأصحاب الرهن على الهبة فقالوا: إن منعنا الهبة، منعنا
(١) "جائزة": أي غير لازمة: أي هي حينئذٍ عقدٌ جائز.