وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المتحاكمان إلينا ذميين.
٨١٩٥ - فأما إذا كانا معاهدين فقد أجمع الأصحاب في الطرق على أنه لا يجب علينا أن نحكم بينهم؛ والسبب فيه أنا لم نلتزم الذب عنهم وأن نسوسهم برأينا سياسَتنا لرعايا الإسلام، وإنما فائدة العهد ألا نتعرض لهم، والسر فيه أن الذمة أوجبت الذبَّ لمكان الجزية التي يبذلونها، ولا جزية على معاهد. وإن بذلوا شيئاًً، فلا حكم لما يبذلونه إذا لم يكن عن استحقاق، وهذا إذا كان المعاهدان متفقي الملة.
فأما إذا كانا مختلفي الملة، فقد قال طوائف من محققينا: يجب علينا أن نحكم بين المعاهدَين المختلفَي الملة، كما ذكرنا في الذمييَّن المختلفَين، وعولوا على ما ذكروه من دوام الخصام.
وقد ذكر بعض الأصحاب في المعاهَدين المختلفَين في الدين خلافاً، ورتبوا فيه المذهب، فقالوا: في الذميين المتفقين قولان، وفي الذميين المختلفين قول واحد في وجوب الحكم، وفي المعاهدين المتفقين قول واحد إنه لا يجب، وفي المعاهدين المختلفين قولان.
وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد ومقتضاه؛ فإنا قد أوضحنا أنا لم نثبت للمعاهدين إلأَ أن نؤمّنهم في دمائهم وأتباعهم وأموالهم، فأما أن نليَهم ونسوسَهم، فلا، فإذا اختصم مختلفان منهم، لم يلزمنا أن نفصل الخصومة؛ جرياً على ما نبهنا عليه من مقتضى العهد.
ولكن اشتهر عن الأصحاب القول بوجوب الحكم بين المختلفَين منهم، وقطع بهذا معظم المحققين من الأصحاب، وهذا محمول عندنا على أصلٍ، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا ديارنا، ثم ثاروا وأخذوا يصطدمون وينتطحون ويتجالدون بالسيوف، فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ ما ذهب إليه أهل الإيالة (١) أن ذلك لا يسوغ؛ فإن السيوف إذا شهرت، خرج الأمر عن الضبط، وأَحْكَمت السيوفُ على
(١) الإيالة: السياسة. كما أوضحنا من قبل.