الحكم فيما وقع فعلاً، أما في هذا الدور فقد توسع الفقهاء في تصور المسائل وفرضها ووضع الأحكام لها (١).
- وكنا قد أشرنا من قبل إلى ظهور مدرستين في الفقه: مدرسة الأثر بالمدينة، ومدرسة الرأي بالعراق، وفي هذا العصر ازداد التمايز بين المدرستين، واتضحت مناهجهما، حتى صار يطلق على العراقيين أهل الرأي.
- وأحب أن أؤكد هنا أن هذا الكلام على إطلاقه بعيدٌ عن الواقع، بل هو من الأحكام العامة التي شاعت، وفُهمت على غير حقيقتها، وأخذت أكبر من حجمها، ذلك أن العراق لم يكن به فقهُ الرأي فقط، بل كان فيه الرأي مع الحديث، وكان في المدينة أيضاً الرأي بجوار الحديث، ألم تَر أنه كان بين فقهاء المدينة والمفتين بها (ربيعة الرأي).
و"كان أهل الحديث يعيبون أهلَ الرأي بأنهم يتركون بعض الأحاديث لأقيستهم، وهذا من الخطأ عليهم، ولم نر فيهم من يقدم قياساً على سنة ثبتت عنده، إلا أن منهم من لم يُرْوَ له الأثر في الحادثة، أو روي له، ولم يثق بسنده، فأفتى بالرأي، فربما كان ما أفتى به مخالفاً لسنة لم تكن بمعلومة له، أو عُلمت، ولكنه لم يثق بروايتها" (٢).
فالقول بأن هؤلاء أهل رأي وهؤلاء أهل أثر بهذا الإطلاق وهذا التعميم، يوحي بما ليس مقصوداً، ويفهم منه غيرُ ما وقع.
روى سفيان بن عيينة (٣) مناظرة بين أبي حنيفة إمامِ أهل الرأي (٤) والأوزاعي (٥) من أئمة الحديث، وكيف اختلفوا في القول برفع اليدين عند الركوع، وكل منهما في هذه
(١) نشأة الفقه الاجتهادي لأستاذنا الشيخ السايس: ٩١.
(٢) تاريخ التشريع للخضري: ١٤٦.
(٣) سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد الأعور الكوفي توفي سنة ١٩٨ هـ (خلاصة تذهيب الكمال).
(٤) أبو حنيفة النعمان بن ثابت توفي ١٥٠ هـ.
(٥) عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو توفي ١٥٧ هـ (تهذيب التهذيب: ٦/ ٢٣٨).