وإذا لم يكن من هذا بد، فلا يكون المضطر مشرفاً على الموت، بل يكون مشرفاً على الإشراف على الموت لو لم يأكل، فهذا بيانٌ كامل في الضرورة ومعناها.
ثم الذي ذهب إليه المحققون أن الضرورة إذا تحققت، وجب أكل الميتة، وما ذكرناه من الاستحلال جريانٌ منا على ما يتداوله الفقهاء فيما بينهم ومن دأبهم (١) إذا ذكروا ما يحرم، ثم طرأت حالة تناقض التحريم، عبروا عن نفي التحريم بالحل، وإلا فالواجب لا يوصف بالحل.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، واختاروه، ثم ذكروا وجهاً غريباً أنه يجوز للمضطر أن يمتنع عن أكل الميتة، ويستسلم للمهلكة، وزعموا أن هذا يُخرَّج على أحد القولين في جواز الاستسلام.
وهذا بعيد جدّاً، ووجهه على بعده أن المضطر قد يتردد في درك حد الضرورة، فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت، أو يقع في حالة لا ينجع معها أكلُ الميتة، ولو اتفق ذلك لا يحل أكل الميتة؛ فإنه غير ناجع، وأكل الميتة إنما يحل لدفع الضرورة، فيكون تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع.
١١٦٤١ - ثم يتنشأ من هذا المنتهى أمر تناهينا في تقريره في كتاب الأشربة، وهو الكلام في التداوي بالنجاسات، ووجه ربطها بهذا المنتهى أن الضرورة إذا وقعت وغمض (٢) مُدرك اندفاعها بتعاطي النجاسة، فهل يحل تعاطيها، أم كيف السّبيل فيها؟ فقد تقرّر هذا على أحسن وجه، والخمر حيث تستيقن لدفاع (٣) الضرر كالميتة، فإن من غُصّ بلقمةٍ، ولم يكن معه ما يُسيغها، فوجد جرعة من خمرٍ؛ فإنه يتعاطاها.
والوجه البعيد الذي حكيته عن العراقيين في أن تعاطي الميتة لا يجب، لا يخرج هاهنا عندي؛ فإني وجهت ذلك الوجه بالتردد في دفع الضرر، وإساغة اللقمة معلومة وإن
(١) في الأصل: " ومن دوابهم ".
(٢) هـ ٤: " وعسر".
(٣) في الأصل: " اندفاع ".