غلب ظنه؛ فإن للظنون مآخذَ لا تسند إلى غيرها ثم لا فرق بين أن يعلم في مكان ولايته وزمانها، وبين العلم الذي يحصل له في غير مكان الولاية وزمانها، خلافاً لأبي حنيفة (١) رضي الله عنه، فإنه جوّز أن يقضي بعلمٍ يستفيده في مكان الولاية وزمانها دون غيره. والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القاضي يقضي بعلمه قولاً واحداً في تعديل الشهود، كما (٢) قدمناه في فصل التزكية.
وأبعد بعض الأصحاب، وقال: لا يفعل ذلك، بل يُسند الأمرَ إلى تزكية المزكين قياساً على غيره، وهذا القائل يقول: تعديله لا يستند إلى علم. فإذا كنا نمنع القضاء بما يستيقنه، كيف يجوزالحكم بما يظنه؟
ولم يختلف علماؤنا في أن القاضي يمتنع عن القضاء بناءً على علمه (٣). وبيانه أنه إذا شهد شاهدان على زوجيّةٍ، وعلم القاضي أن بين المدعي بها وبين المرأة محرمية، فلا يبالي بشهادة الشهود. وكذا إذا شهد شهود على موت إنسان بتأريخ ذكروه، وعلم القاضي أنه كان حياً في ذلك الزمان، فلا يقضي بشهادة الشهود؛ فإنه إذا كان يتوقف في القضاء لريبة تلحق الشهود، فكيف يستجيز القضاء بها، وهو يستيقن الكذب عمداً منهم أو خطأ.
ثم قال الأئمة: إذا امتنع، فحسنٌ أن يذكر ما عنده، وذلك أنفى للتهم.
ثم اختلف طرق أئمتنا: فالذي ذهب إليه الأكثرون ترتيبٌ نسوقه. وذلك أنهم قالوا: القولان في القضاء بالعلم فيما يتعلق بالأموال، وألحقوا بذلك الأموالَ الثابتة لله كالزكوات، والقضاءُ بالعلم في العقوبات مرتب على الأموال، والأولى أن لا يقضي فيها بالعلم.
ثم العقوبات تنقسم: فمنها ما هو لله، ومنها ما هو للآدميّ. والقضاء بما هو للآدمي أولى، ولا يخفى وجه الترتيب، فإن العقوبة الثابتة للآدمي بالإقرار لا تسقط بالرجوع، بخلاف العقوبة الواجبة لله تعالى. هذه طريقة.
(١) ر. مختصر الطحاوي: ٣٣٢، بدائع الصنائع: ٧/ ٧، حاشية ابن عابدين: ٥/ ٢٣.
(٢) زيادة من (ق).
(٣) الامتناع عن القضاء بناءً على علمه محل اتفاق، وإنما الخلاف هو في الحُكم بناء على علمه.