القسمُ الأوّل: وهو قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فقسمَ اللهُ تعالى في الآية الأولى المخاطَبِينَ بالصِّيَامِ قسمين:
أحدهما: مريضٌ ومسافرٌ.
والثّاني: قادِرٌ على الصَّوْمِ.
وإنّما تقابل هذان القسمان؛ لأنّ القسم الأوَّل معناه: مَنْ كانَ له عُذْرٌ يمنعه من الصِّيام، ففسَّرَ العُذْرَ بالمَرَضِ والسَّفَرِ، ثمّ قابَلَهُ بالقسم الثّاني وهي الطاقة على الصَّومِ، فجعلَ على الّذي لا يَقْدِر على الصِّيام عِدّة مِن أَيَّامٍ أُخَرٍ، وجعل على القادر له فِدْيَة إنّ لم يُرِدِ الصِّيامَ.
وقال ابنُ أبي ليلى عن (١) أصحاب محمّد: إنّ هذه الآية لما نزلت شقّ عليهم فؤُمِرُوا بالفِدْيَة، ثمّ نسخَ ذلك بالآية الّتي بعدها، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (٢) معناه: فأفطر، فعليه عدَّة من أيّام أُخَر، وبهذا ينتظم التَّقسيم ويستتبُّ الكلام، ويرتبط أوّل الكلام مع آخره في قوله:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية (٣)، يعني: أنّ تنتقلوا عن الأداءِ إذ تَعَذَّرَ إلى القَضَاءِ الّذي تَيَسَّر، ثمّ قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (٤) ولو صام مرَّتَيْنِ لزاد عليها.
المسألة الثّانية (٥):
أمّا قوله: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" و"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ" فيعارِضُه حديث أنس: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ" (٦). ورَوَى حَمْزَة بن عمرٍو الأَسْلَمِيّ، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال له في الصَّوم في السَّفَر: "إنّ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفطِرْ" (٧).
(١) غ: "في" وفي القبس: "يا" ولعلّ الصواب ما أثبتناه.
(٢) البقرة: ١٨٥، والحديث أورده البخاريّ مُعَلَّقًا في كتاب الصّوم، باب: "وعلى الذين يطيقونه فدية" وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: ٤/ ١٨٨ "وصله أبو نُعَيْم في المستخرج، والبيهقي في السنن: ٤/ ٢٠٠ من طريقه" وانظر تغليق التَّعليق: ٣/ ١٨٤ - ١٨٥.
(٣) البقرة: ١٨٥.
(٤) البقرة ١٨٥.
(٥) انظرها في القبس: ٤/ ٤٩٤.
(٦) أخرجه مالك في الموطّأ (٨٠٨) رواية يحيى.
(٧) أخرجه مالك في الموطّأ (٨٠٩) رواية يحيى.