حنيفةَ في الامتناع من القضاءِ على الغائبِ (١)؛ لأنّه إذا لم يسمَعُ كلامَهُ، لمن يَقضِي؟ أو بم يقضي؟ وقد رَوَى أبو داودَ (٢) وغيرُه (٣) عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لعلىٍّ حين أرسله إلى اليمن: "لَا تقضي لأَحَدِ الخصمَينِ حَتَّى تَسمَعَ مِن الآخَرِ، فَإنَّكَ إنَّ فَعَلتَ لَا تَدرِي بِمَا قَضَيتَ" وساعَدَهُ على ذلك عبد الملك بن المَاجِشُون من أصحابنا والشّافعيّ. والمسألةُ عظيمةُ الموقعِ، كثيرةُ الاختلافِ في المذهبِ (٤).

وفي هذا: إنَّ الحاكم أو القاضي لا يقضي بعِلمِهِ بحْالٍ، ولو جازَ ذلك لأحدٍ لكان أَولَى النَّاس بذلك رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وهو قد تركَ ذلك وتورَّعَ عنه، فرُوِيَ أنّه قال حين أُشِيرَ عليه بقتل منِ استوجبَ القتلَ ممّن ظهر نِفَاقُه وتبيَّنَ شقاؤُه: "أخَافُ أنّ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَن مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصحَابَهُ" (٥) فعلَّلَ ذلك بالتُّهمةِ الّتي تَعُمُّ ما قدَّمناه.

وروى أبو داود (٦)؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أرسلَ أبا جَهمٍ مُصدِّقًا فَلُوجِجَ في الصدقَةِ فَشُجَّ، فَارتَفَعُوا إِلَى رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: القَوَدَ يا رَسُولَ اللهِ. فقال: أَوَ تَأخُذُونَ كَذا وَكذَا؟ فَأَبَوا، ثُم قال: أَو كَذَا؟ فأبوا. ثُم قالَ: أو كَذَا؟ فَرَضُوا. قَالَ: فأخطُبُ النَّاسَ وَأُعْلِمُهُم بِرِضَاكُم؟ قالُوا: نَعَم. فَأعلَمَ، فَقَالُوا: لَا، ما رَضِينَا. فأرَادَهُم المُهَاجِرُون والأَنصَار، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: لَا، وَنَزَلَ، فَجَلسُوا إِلَيهِ فَأرضَاهُم، وَقَالَ: أَخطُبُ وَأُعلِمُ النَّاسَ؟ قَالُوا: نَعَم. فَخَطَبَ فَأعلَمَهُم، فَقَالُوا: رَضِينَا. وهذا نصٌّ.

(١) انظر الهداية شرح البداية: ٣/ ١٠٧ وقيده بقوله: "إِلَّا أنّ يحضر من يقوم مقامه".
(٢) في سننه (٣٥٨٢ م).
(٣) كالإمام الطيالسي (١٢٥)، وأحمد: ١/ ٩٠، والترمذي (١٣٣١) وقال: "هذا حديث حسن"، وأبي يعلى (٣٧١)، والبيهقي: ١٠/ ١٣٧.
(٤) انظر المعونة: ٢/ ١٥١٢.
(٥) أخرجه البخاريّ (٤٩٠٥)، ومسلم (٢٥٨٤) من حديث جابر.
(٦) في سُنَنَه (٤٥٢٣) من حديث عائشة، مع اختلاف في الألفاظ. وأخرجه أيضًا: ابن أبي شيبة (١٨٠٣٢)، وابن ماجه (٢٦٣٨)، والنسائي في الكبرى (٩٦٨٠).