القولُ الثاني - قال بعضُ علمائنا (١): إنمّا يهرُبُ عند التأْذِينِ لئلًا يشهد لابْنِ آدم بشهادة التّوحيد، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يَسْمَعُ مَدَى صوتِ المُؤذِّنٌ ولاَ إِنْسٌ ولا شيءٌ، إلّا شَهِدَ لَهُ يومَ القِيامةِ" (٢)، فَيَفِرُّ لئلّا يشهد له بالشّهادة، وهذا ضعيفٌ لا يُلْتَفَتُ إليه.
القولُ الثّالث - قيل: إنّما يَفرُّ من الأذان لأنّه دُعِيَ إلى الصّلاة الّتي فيها السُّجود الّذي أباه وخَالَفَهُ.
قلنا: وليس هذا أيضًا بشيٍ؛ لأنّه أخبر عليه السّلام أنّه إذا قُضِيَ التَّثْوِيب أَقْبَلَ يُذَكَّرُهُ ما لم يَذْكُر حتّى يخلط علَيه صلاته. وكان فراره من الصّلاة الّتي فيها السّجود أَوْلَى لو كان كما زعموا، ولكن هذا الحديث يردُّ عليه ورُوِيَ عن جابر بن عبد الله؛ أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "إذا نَادَى المؤذِّنُ بالأَذانِ هربَ الشَّيطانِ حتّى يكون بالرَّوْحَاء" وهي ثلاثون ميلًا من المدينة (٣).
فائدة معنوية:
قوله في الحديث (٤): "اذكُر كَذَا وَكَذَا" فيذكِّره أمور الدُّنيا ليفسد عليه الصّلاة ويُحْرمهُ الإخلاص فيها.
وقال علماؤنا (٥): في هذا الحديث من الفقه: أنّه من نَسِيَ شيئًا وأراد أنّ يذكُرَهُ، فَلْيُصَل ويجهد نفْسَهُ فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدّنيا، فإنّ الشّيطان لابدّ أنّ يذكَّره (٦) أمور دُنْيَاه، ليصدَّهُ عن الإخلاص في صلاته، ولأجل هذا قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى ركعَتَيْنِ لا يُحَدِّث فيها نَفْسَهُ بشيءٍ من الدُّنيا غُفِرَ لَه" (٧).
حُكيَ عن أبي حنيفة؛ أنّ رَجُلًا أتاه وقد كان دَفَنَ مالًا وغابَ عنه سنينَ كثيرة، ثم قدم فطلبه، فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة مُتبَرِّكًا برأيه ورغبة في فضل دُعائه، فأعلمه بما دار عليه في ماله، فقال له أبو حنيفة: يا أخي صلَّ في جَوْفِ اللَّيل
(١) غ، ب: "بعض العلماء".
(٢) أخرجه مالكٌ في الموطَّأ (١٧٦) رواية يحيى.
(٣) "من المدينة" زيادة من شرح ابن بطّال، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (٢٢٧٣)، وأحمد: ٣/ ٣١٦، وعبد بن حميد (١٠٣٢)، وأبو عوانة: ١/ ٣٣٣، والبيهقي في السنن: ١/ ٤٣٢ من حديث جابر.
(٤) الّذي أخرجه مالكٌ في الموطَّأ (١٧٧) رواية يحيي.
(٥) المقصود هو ابن بطّال، ومن هنا إلى آخر الفائدة مقتبس من شرح البخاريّ: ٢/ ٢٣٧ بتصرّف.
(٦) في شرح ابن بطّال: "يحاول تسهيته وإذكاره".
(٧) أخرجه البخاريّ (١٥٩)، ومسلم (٢٢٦) من حديث عثمان بن عفّان.