حَتَّى بَعَثَ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى (٣) مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، قَالَ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فِي مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ (٤) .
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ وَتَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، فَوَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا وَدَّعُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَكَى، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ مَا بِي حُبٌّ لِلدُّنْيَا، وَلَا صَبَابَةٌ إِلَيْهَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٥) فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللهُ وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ. فقال ابن رواحة.
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا (٦)
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبَدَا (٧)
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَهُ اللهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا (٨)
ثُمَّ أَتَى عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَدَّعَهُ، فَقَالَ:
وَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاهُ مِنْ حَسَنٍ ... تَثَبُّتَ مُوسَى ونصرا كالذي نصرا (٩)
(٣) التكملة من سيرة ابن هشام (٣: ٣٢٢) .
(٤) سيرة ابن هشام (٣: ٣٢٢) ، والبداية والنهاية (٤: ٢٤١) .
(٥) سورة مريم- ٧١ .
(٦) ذات فرغ يريد طعنة واسعة، والزبد أصله ما يعلو الماء إذا غلا، وأراد هنا ما يعلو الدم الذي ينفجر من الطعنة.
(٧) مجهزة: سريعة القتل. تقول: أجهز على الجريح إذا أسرع في قتله، وتنفذ الأحشاء: تخرقها وتصل إليها.
(٨) الجدث: القبر.
(٩) تفرست: تبينت، ونافلة: هبة من الله.