تدل على الاعتذار لهم أكثر من أن تدل على تسفيههم أو تعييرهم بها.
ذلك أن الأمم الأخرى كانت تستهدي لانحرافاتها العظيمة بمشاعل الحضارة والثقافة والمدنية.
فكانت تتقلب في حمأة الفساد عن تبصر وتخطيط وفكر.
ثم إن الجزيرة العربية تقع- بالنسبة لرقعتها الجغرافية- في نقطة الوسط بين هذه الأمم التي كانت تموج من حولها.
والناظر إليها اليوم يجد- كما يقول الأستاذ محمد المبارك- كيف أنها تقف في الوسط التام بين حضارتين جانحتين: إحداهما حضارة الغرب المادية التي قدمت عن الإنسان صورة بتراء لا تقع حتى على جانب جزئي من الحقيقة، وأخراهما الحضارة الروحية الخيالية في أقصى الشرق كتلك التي كانت تعيش في الهند والصين وما حولهما «٧» .
فإذا تصورنا حالة العرب في جزيرتهم قبل الإسلام وحالة الأمم المختلفة الأخرى المحيطة بهم، سهل علينا أن نستجلي الحكمة الإلهية التي اقتضت أن تتشرف الجزيرة العربية دون غيرها بمولده وبعثته صلّى الله عليه وسلم، وأن يكون العرب هم الطليعة الأولى التي تحمل إلى العالم مشعل الدعوة إلى الدين الإسلامي الذي تعبد الله به الجنس البشري كله من أقصى العالم إلى أقصاه.
وهي ليست، كما يظن البعض، أن أصحاب التدين الباطل والحضارات الزائفة يصعب فيهم العلاج والتوجيه لافتخارهم بما هم عليه من الفساد، لرؤيتهم إياه شيئا صالحا، أما الذين لا يزالون يعيشون في فترة البحث والتنقيب، لا ينكرون جهلهم ولا يدّعون ما لم يؤتوه من مدنية وعلم وحضارة، فهم أطوع للعلاج والتوجيه- نقول ليست هذه هي الحكمة، لأن مثل هذا التحليل يصدق بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة وطاقته مخلوقة فهو يفرق بين ما هو سهل وصعب عليه، فيفضل الأول ويتهرب من الثاني طمعا في الراحة وكراهية للنصب.
ولو تعلقت إرادة الله تعالى بأن يجعل مشرق الدعوة الإسلامية من جهة ما في أرض فارس أو الروم أو الهند، لهيأ لنجاح الدعوة فيها من الوسائل ماهيأ لها في الجزيرة العربية، وكيف يعزّ ذلك عليه وهو خالق كل شيء ومبدع كل وسيلة وسبب.
ولكن الحكمة في هذا الاختيار، من نوع الحكمة التي اقتضت أن يكون الرسول أميّا لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه كما قال الله تعالى حتى لا يرتاب الناس في نبوته عليه الصلاة والسلام وحتى لا تتكاثر لديهم أسباب الشك في صدق دعوته.
إن من تتمة هذه الحكمة الإلهية أن تكون البيئة التي بعث فيها عليه الصلاة والسلام أيضا بيئة أميّة بالنسبة للأمم الأخرى التي من حولها، أي لم يتطرق إليها شيء من الحضارات المجاورة لها، ولم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من تلك الفلسفات التائهة من حولها.
(٧) الأمة العربية في معركة تحقيق الذات: ١٤٧