إذا أهلوا: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك» فيوحدونه- كما قال ابن هشام- بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده.
والخلاصة أن نشأة التاريخ العربي إنما تمت في كنف الحنيفية السمحة التي بعث بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكانت تغمر حياتهم عقيدة التوحيد ونور الهداية والإيمان، ثم أخذ العرب يبتعدون عن ذلك الحق رويدا رويدا، بعامل امتداد الزمن وتطاول القرون وبعد العهد وأخذت حياتهم تنغمر بدلا من ذلك بظلمات الشرك وضلالات الفكر وعماهة الجهل، مع استمرار بقايا من معالم الحق القديم ومبادئه تخبّ في سير بطيء مع تاريخهم، تذوي وتضعف مع الدهر ويقل أنصارها ما بين سنة وأخرى.
فلما استنارت شعلة الدين الحنيف من جديد، ببعثة خاتم الأنبياء محمد صلّى الله عليه وسلم، أقبل الوحي الإلهي إلى كل ما قد تكثف من ضلال وظلمات خلال تلك الحقبة الطويلة من الزمن فمحاه وأنار مكانه بقبس الإيمان والتوحيد ومبادئ العدالة والحق، وأقبل إلى تلك البقايا التي امتدت بها الحياة إلى مشرق النور الجديد، مما كان قد بعث به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأقرته الشرائع الإلهية، فأقرها وأكدها وجدد الدعوة إليها.
*** ولا ريب أن من نافلة القول وفضوله أن نؤكد بأن هذا الذي نقرره شيء معروف بالبداهة لمن اطلع على التاريخ. وأنه شيء ثابت بالبداهة لمن درس شيئا من الإسلام، غير أننا نضطر في هذا العصر إلى أن نضيع كثيرا من الوقت في تأكيد البدهيات وتوضيح الواضحات. وذلك بعد أن رأينا بأعيننا كيف يخضع بعض الناس اعتقاداتهم لمجرد ما قد يكون في نفوسهم من الرغبة والإرادة.
أجل، فلقد عاشت هذه النوعية من الناس، ولم يعد يهمها أنها إنما تصفّد عقلها بأقسى أغلال العبودية والاسترقاق الفكري! ..
وما أعظم الفرق بين أن تكون إرادتك من وراء عقيدتك، وبين أن تكون عقيدتك من وراء إرادتك. ما أعظم الفرق بينهما علوا وإسفافا، وعزة وانحطاطا! ..
لقد وجد ناس يقولون- على الرغم من بداهة ما قلناه ووضوح براهينه-: إن العصر الجاهلي أخذ يستيقظ قبيل البعثة على السبيل الأمثل الذي يجب اتباعه، وأخذت الأفكار العربية تثور على مظاهر الشرك وعبادة الأصنام وما يحف بها ويتبعها من خرافات الجاهلية، ولقد تمثلت هذه اليقظة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم ودعوته الجديدة.
ومعنى هذه الدعوة- كما لا يخفى عليك- أن التاريخ الجاهلي كان يزداد تفتحا على حقائق التوحيد ونور الهداية مع امتداد الزمن وتطاول الدهر، أي أنهم كلما ابتعدوا عن عهد إبراهيم