وروى البخاري ومسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول:
أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبّها» «١١» .
وروى أحمد والطبراني من طريق مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» .
وأما قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم منها، فإن أول ما يدركه الإنسان من هذا الزواج هو عدم اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية أقرانه من الشبان لطمع بمن هي أقل منه سنا أو بمن ليست أكبر منه على أقل تقدير. ويتجلى لنا أنه صلّى الله عليه وسلم إنما رغب فيها لشرفها ونبلها بين جماعتها وقومها حتى إنها كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
ولقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر، دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم تجاوز هذه الفترة من العمر دون أن يفكر كما قلنا بأن يضم إلى خديجة مثلها من الإناث: زوجة أو أمة، ولو شاء لوجد الزوجة والكثير من الإماء، دون أن يخرق بذلك عرفا أو يخرج على مألوف أو عرف بين الناس، هذا على الرغم من أنه تزوج خديجة وهي أيم، وكانت تكبره بما يقارب مثل عمره.
وفي هذا ما يلجم أفواه أولئك الذين يأكل الحقد أفئدتهم على الإسلام وقوة سلطانه، من المبشرين والمستشرقين وعبيدهم الذين يسيرون من ورائهم، ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء، كما قال الله عز وجل.
فقد ظنوا أنهم واجدون في موضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام ويمكن أن يشوّه من سمعة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتخيلوا أن بمقدورهم أن يجعلوه عند الناس في صورة الرجل الشهوان الغارق في لذة الجسد العازف في معيشته المنزلية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح.
(١١) متفق عليه واللفظ لمسلم.