ضرورته، وهو ما يسمى بالتصوف عند جمهور العلماء والباحثين، أو بالإحسان عند بعضهم، أو بعلم السلوك عند بعض آخر كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى «٢١» .
والاختلاء الذي كان يمارسه صلّى الله عليه وسلم قبيل بعثته كان واحدة من هذه الوسائل لتحقيق هذه الدوافع نفسها.
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم معنى الخلوة كما شذّ البعض ففهموها حسب شذوذهم، وهو الانصراف الكلي عن الناس واتّخاذ الكهوف والجبال موطنا واعتبار ذلك فضيلة بحدّ ذاتها.
فذلك مخالف لهديه صلّى الله عليه وسلم ولما كان عليه عامة أصحابه. إنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال كما ذكرنا، والدواء لا ينبغي أن يؤخذ إلا بقدر، وعند اللزوم، وإلّا انقلب إلى داء ينبغي التوقي منه. وإذا رأيت في تراجم الصالحين من استمر على الخلوة والابتعاد عن الناس، فمردّ ذلك إلى حالة خاصة به، وليس عمله حجة على الناس.
بدء الوحي
روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة تصف كيفية بدء الوحي وتقول:
«أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له اقرأ، فقال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال:
زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل في العبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا
(٢١) انظر الجزء العاشر من فتاوى الشيخ ابن تيمية رحمه الله، لتجد قيمة التصوف الحقيقي عند هذا الإمام الجليل، ولتعلم كم يفتري عليه أولئك الذين يحاولون ترويج باطلهم عن طريق إلصاقه باسمه.