يكون الله عزّ وجلّ قد قلاه بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه وراحت تحدثه نفسه، كلما وصل إلى ذروة جبل، أن يلقي بنفسه منها! ..
إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه في حراء، وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يقول:
«يا محمد أنت رسول الله إلى الناس» . فعاد مرة أخرى وقد استبدّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. المدثر ٧٤/ ١- ٢ .
إن هذه الحالة التي مرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تجعل مجرّد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا، ضربا من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.
إذن فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام. وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عزّ وجلّ.
وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلّى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟
والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلّا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جلّ جلاله- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد:
«إن عمى الألوان مثلا يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهنا لك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية» «٢٤» .
ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي:
١- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنّبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما الحديث فمعناه
(٢٤) الظاهرة القرآنية: ١٢٧