يزعمون بأن الدعوة التي قام بها محمد صلّى الله عليه وسلم، إنما هي من وحي بيئته العربية نفسها، وأنها إنما كانت تمثل حركة الفكر العربي إذ ذاك.
فلو كان كذلك، لما كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها، أربعين رجلا وامرأة، معظمهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلفي الأعاجم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي.
وسوف تجد في البحوث القادمة أن بيئته العربية نفسها هي التي أرغمته على الهجرة من بلاده وأرغمت أتباعه من حوله على التفرق هنا وهناك والخروج إلى بلاد الحبشة مهاجرين، وذلك كراهية منها للدعوة التي زعموا أنه إنما كان يمثل بها نوازعها وأفكارها.
الجهر بالدعوة
قال ابن هشام: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّث به. فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه. ثم قال الله له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الحجر ١٥/ ٩٤ .
وقال له: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء ٢٦/ ٢١٤ و ٢١٥ .
وحينئذ بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه. فاستجاب لقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بأن صعد على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي، حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر: ما هو؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم.. ألهذا جمعتنا؟» . فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «٤» المسد ١١١/ ١ .
ثم نزل الرسول فاستجاب لقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بأن جمع من حوله جميع ذويه وأهل قرابته وعشيرته، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلّها ببلاها» «٥» .
(٤) متفق عليه.
(٥) متفق عليه واللفظ لمسلم، وقوله: سأبلّها ببلاها أي سأصلها بصلتها.