أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ. فَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ، إحْدَاهُمَا فَرْتَنَا، وَالْأُخْرَى أَرْنَبُ، وَكَانَتَا فَاسِقَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ الشّعْرَ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُمَا تُغَنّيَانِ بِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَيْنَتَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَتُغَنّي الْقَيْنَتَانِ بِذَلِكَ الْهِجَاءِ.
وَكَانَتْ سارة مولاة عمرو ابن هَاشِمٍ مُغَنّيَةً نَوّاحَةً بِمَكّةَ، فَيُلْقَى عَلَيْهَا هِجَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُغَنّي بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلُبُ أَنْ يَصِلَهَا وَشَكَتْ الْحَاجَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لَك فِي غِنَائِك وَنِيَاحِك مَا يُغْنِيك!
فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّ قُرَيْشًا مُنْذُ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ تَرَكُوا سَمَاعَ الْغِنَاءِ. فَوَصَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَرَ لَهَا بَعِيرًا طَعَامًا، فَرَجَعَتْ إلَى قُرَيْشٍ وَهِيَ عَلَى دِينِهَا، فَأَمَرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تُقْتَلَ فَقُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ. وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا، أَرْنَبُ أَوْ فَرْتَنَا، وَأَمّا فَرْتَنَا فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا حَتّى آمَنَتْ، وَعَاشَتْ حَتّى كُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلَاعِهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ، فَقَضَى فِيهَا عُثْمَانُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، سِتّةَ آلَافٍ دِيَتُهَا، وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْجُرْمِ.
قَالُوا: وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَإِنّهُ كَانَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِي سَهْمٍ- كَانَتْ أُمّهُ سَهْمِيّةً- فَاصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي نَدَامَى لَهُ، فَأَتَى نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اللّيْثِيّ، وَعَلِمَ بِمَكَانِهِ، فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ ثَمِلٌ، يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ:
دَعِينِي أَصْطَبِحْ يَا بَكْرُ إنّي ... رَأَيْت الْمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشَامِ (١)
وَنَقّبَ عَنْ أَبِيك أَبِي يَزِيدٍ ... أَخِي الْقَيْنَاتِ والشّرب الكرام
(١) يريد أخاه، كما يذكر الواقدي بعد.