قال الدكتور دراز (١) - رحمه الله: إن التاريخ سجّل على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟
هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغويّة في أمّة من الأمم ما بلغته العربيّة في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتّى أدركت هذه اللغة أشدّها، وتمّ لها بقدر الطاقة البشريّة تهذيب كلماتها وأساليبها؟!
ما هذه المجموع المحتشدة في الصحراء؟! وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟!
إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها، واختيار أحسنها، والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمْرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدّب!
فما هو إلا أن جاء القرآن .. وإذا الأسواق قد انفضّت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى!
ذلك على أنه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراداً أو جماعات، بل تحدّاهم وكرّر عليهم ذلك التحدّي في صور شتّى، متهكّماً بهم، متنزّلأَ معهم إلى الأخفّ فالأخفّ:
فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله!
ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله!
(١) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: ٨٣ وما بعدها بتصرف.