فإذا جاوزنا حقوق النفس، وحقوق الأسرة، وانتقلنا إلى ذلك الميدان الفسيح، بل ذلك العقد المنفرط، إلى محيط الجماعة "الكبرى" الذي لا يسمع فيه صوت لغريزة البقاء الفردي، ولا صوت لغريزة البقاء النوعي، وإنما تُسمع فيه أصوات خافتة للبواعث النبيلة -دينيّة كانت أو إنسانيّة- فهنالك تشتد الحاجة إلى صوت قوي علوي، متجدّد متكرّر، يوقظ هذه المعاني النبيلة من هجوعها!
من أجل ذلك لا نزال نسمع صوت الدعوة القرآنيّة، إلى البذل والإنفاق في سبيل الله، يلاقينا حيثما توجّهنا في ثنايا الآيات وتضاعيف السور!
ثم نرى هذه الدعوة الرشيدة لا تكتفي بأن تجعل هذا البذل ركناً من أركان الإيمان، ولا تكتفي بأن تجعل به للجماعة في أموال المؤمنين حقّين اثنين:
حقًّا معلوم الحدود والمقادير!
وحقاً آخر غير معلوم الحدود، تحدّده الضرورات النازلة، والحاجات المؤقتة، لإعانة العاجزين، وإغاثة الملهوفين (١)!
اختيار مادة العطيّة:
ونبصر القرآن الحكيم لم يكتف بأن وضع هكذا قانون البذل مفصّلاً، ولكنه أحاطه بسنن سنّها، وآداب شرعها!
ونبصر آداب البذل في اختيار مادة العطيّة، حيث طوى الحديث عن فريضة البذل نفسها, ولم يبق المجال مجال الدعوة إلى البذل والتحريض عليه، ولكن مجال التمييز بين أنواع البذل واختيار أحسنها!
(١) انظر كتابنا: المسؤوليّة الاجتماعيّة في الإسلام.