إلَى الصُّلْحِ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا الْمَطَابِخَ: شِعْبًا بِأَعْلَى مَكَّةَ ١ ، وَاصْطَلَحُوا بِهِ، وَأَسْلَمُوا الْأَمْرَ إلَى مُضَاضٍ. فَلَمَّا جُمِعَ إلَيْهِ أَمْرُ مَكَّةَ فَصَارَ مُلْكُهَا لَهُ، نَحَرَ لِلنَّاسِ فَأَطْعَمَهُمْ، فاطّبخ ٢ النَّاس ويأكلوا، فَيُقَالُ: مَا سُمِّيَتْ الْمَطَابِخُ الْمَطَابِخَ إلَّا لِذَلِكَ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ الْمَطَابِخَ، لَمَّا كَانَ تُبَّعٌ نَحَرَ بِهَا وَأَطْعَمَ، وَكَانَتْ مَنْزِلَهُ. فَكَانَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُضَاضٍ وَالسَّمَيْدَعِ أَوَّلَ بَغْيٍ كَانَ بِمَكَّةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
(أَوْلَادُ إسْمَاعِيلَ وَجُرْهُمٍ بِمَكَّةَ) :
ثُمَّ نَشَرَ اللَّهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ بِمَكَّةَ، وَأَخْوَالُهُمْ مِنْ جُرْهُمٍ، وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحُكَّامُ بِمَكَّةَ، لَا يُنَازِعُهُمْ وَلَدُ إسْمَاعِيلَ فِي ذَلِك لخؤولتهم وَقَرَابَتِهِمْ، وَإِعْظَامًا لِلْحُرْمَةِ أَنْ يَكُونَ بِهَا بَغْيٌ أَوْ قِتَالٌ. فَلَمَّا ضَاقَتْ مَكَّةُ عَلَى وَلَدِ إسْمَاعِيلَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ، فَلَا يُنَاوِئُونَ قَوْمًا إلَّا أَظْهَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ فَوَطِئُوهُمْ.
اسْتِيلَاءُ قَوْمِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ على الْبَيْت وَفِي جُرْهُمٍ
(بَغْيُ جُرْهُمٍ بِمَكَّةَ وَطَرْدُ بَنِي بَكْرٍ لَهُمْ) :
ثُمَّ إنَّ جُرْهُمًا بَغَوْا بِمَكَّةَ، وَاسْتَحَلُّوا خِلَالًا ٣ مِنْ الْحُرْمَةِ، فَظَلَمُوا مَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَأَكَلُوا مَالَ الْكَعْبَةِ الَّذِي يُهْدَى ٤ لَهَا، فَرَقَّ أَمْرَهُمْ. فَلَمَّا رَأَتْ بَنُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَغُبْشَانُ مِنْ خُزَاعَةَ ذَلِكَ، أَجَمَعُوا
١ وَفِي المطابخ يَقُول الشَّاعِر:
أَطُوف بالمطابخ كل يَوْم ... مَخَافَة أَن يشردنى حَكِيم
يُرِيد حَكِيم بن أُميَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
٢ اطبخ الرجل: طبخ لنَفسِهِ خَاصَّة، أَو اتخذ طبيخا، وَيُقَال: اطبخ الرجل اللَّحْم، وَذَلِكَ إِذا طبخه.
٣ الْخلال: الْخِصَال.
٤ كَانَ كل مَا يهدى إِلَى الْكَعْبَة يلقى فِي بِئْر قريبَة القعر، كَانَ احتفرها إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد بَاب الْكَعْبَة. وَيُقَال: إِنَّه لما فسد أَمر جرهم، وسرقوا مَال الْكَعْبَة مرّة بعد مرّة، دخل رجل مِنْهُم الْبِئْر ليَسْرِق مَال الْكَعْبَة، فَسقط عَلَيْهِ حجر من شَفير الْبِئْر فحبسه فِيهَا. كَمَا يذكرُونَ أَنه أرْسلت على الْبِئْر حَيَّة، فَكَانَت تهيب من يدنو مِنْهَا.
٨- سيرة ابْن هِشَام- ١