(مَنْزِلَته ومكانته) :
إِن المتتبع لأخبار الروَاة عَن ابْن إِسْحَاق يجد إِلَى جَانب الْإِسْرَاف فِي النّيل مِنْهُ، الْإِسْرَاف فِي مدحه، فتجد عَالما جَلِيلًا كَالْإِمَامِ مَالك بن أنس، وَآخر كهشام بن عُرْوَة بن الزبير، يكادان يخرجانه من حَظِيرَة المحدّثين، أهل الصدْق والثّقة، وَلَا يدّخران وسعا فِي اتهامه بِالْكَذِبِ والدّجل. ذَلِك إِلَى اتهامات أُخْرَى رمى بهَا ابْن إِسْحَاق، كالتدليس، وَالْقَوْل بِالْقدرِ، والتشيع، وَالنَّقْل عَن غير الثّقات، وصنع الشّعْر وَوَضعه فِي كِتَابه، وَالْخَطَأ فِي الْأَنْسَاب.
كَمَا أَنَّك تَجِد غير وَاحِد من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، كَابْن شهَاب الزهرىّ، وَشعْبَة بن الحجّاج وسُفْيَان الثوريّ، وَزِيَاد البكّائيّ، يوثقونه وَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِشَيْء من هَذَا.
وَفِي الحقّ أَن جملَة الحاملين عَلَيْهِ لم تكن مبرأة عَن الْغَايَة، وَلم تكن من الحقّ فِي شَيْء. فانا نعلم عَن ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ يطعن فِي نسب مَالك بن أنس، وَفِي علمه، وَيَقُول: ائْتُونِي بِبَعْض كتبه حَتَّى أبين عيوبه، أَنا بيطار كتبه. فانبرى لَهُ مَالك، وفتّش هُوَ الآخر عَن عيوبه، وَسَماهُ دجالًا، وَكَانَت بَينهمَا هَذِه الْحَرْب الكلامية.
كَمَا غاظ هِشَام بن عبد الْملك من ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ يدعى رِوَايَته عَن امْرَأَته، وَالرِّوَايَة فِي ظنّ هِشَام لَا بدّ أَن تصحبها الرُّؤْيَة، وَهُوَ ضنين بزوجه أَن يَرَاهَا أحد. - وَلَقَد فَاتَ هشاما أَن الرِّوَايَة قد تكون من وَرَاء حجاب، أَو أَن ابْن إِسْحَاق حمل عَنْهَا صَغِيرا. ثمَّ مَا لهشام يُؤْذِيه هَذَا، وَقد كَانَت سنّ زوجه يَوْم يصحّ أَن يحمل عَنْهَا ابْن إِسْحَاق لَا تقلّ عَن خمسين سنة، فَهِيَ تسبقه فِي الْوُجُود بِمَا يقرب من ٣٧ عَاما، ذَلِك إِلَى أَنه لم يكن غَرِيبا فِي ذَلِك الْعَصْر أَن يرْوى رجل عَن امْرَأَة.
وَأما مَا رمى بِهِ ابْن إِسْحَاق من التَّدْلِيس وَغَيره، فقد عقد فِي ذَلِك الْخَطِيب فِي كِتَابه «تَارِيخ بَغْدَاد» ، وَابْن سيد النَّاس فِي كِتَابه «عُيُون الْأَثر» فصلين عرضا فيهمَا لتفنيد جَمِيع المطاعن الَّتِي وجهت إِلَيْهِ، نلخص مِنْهُمَا مَا يأتى:
وَأما مَا رمى بِهِ من التَّدْلِيس وَالْقدر والتشيّع فَلَا يُوجب ردّ رِوَايَته، وَلَا يُوقع فِيهَا كَبِير وَهن. أما التَّدْلِيس فَمِنْهُ القادح وَغَيره، وَلَا يحمل مَا وَقع هَاهُنَا من مُطلق