بعد أَن غَابَ عَنْهَا هَذَا الْعُمر الطَّوِيل، فولى قضاءها وَجلسَ فِيهَا للحكومة بَين النَّاس، والفصل فِي خصوماتهم. ثمَّ حنّ إِلَى فاس ثَانِيَة، فَترك جيّان إِلَيْهَا، وَأقَام بهَا، وَكَانَ فِيهَا شيخ الْعَرَبيَّة والْحَدِيث يَأْخُذ عَنهُ النَّاس، حَتَّى وافته منيته بهَا.
(مَنْزِلَته ومؤلفاته وَشَيْء عَنهُ) :
علّك، وَقد حدثناك عَن شُيُوخ أَبى ذرّ الَّذين سمع عَنْهُم، وَكلهمْ من جلة الْعلمَاء، ورحلته إِلَيْهِم، قد عرفت طموح هَذِه النَّفس إِلَى الاستزادة من الْعلم والتمكن فِيهِ، وَأَن صَاحبهَا لم يقنع مِنْهُ بِقَلِيل، وَأَنت إِذْ عرفت الْمَرَاتِب الَّتِي تقلّب فِيهَا أَبُو ذرّ بعد الْحَيَاة الأولى، حَيَاة الدَّرْس والتحصيل، تدْرك مَعنا أَنه وصل من الْعلم إِلَى غَايَة رفعته إِلَى تولى خطابة جَامع إشبيلية أَولا، ثمَّ قَضَاء جيان ثَانِيًا، ثمَّ إِلَى أَن يجلس مَجْلِسه الْأَخير فِي فاس يتمتع بصيت بعيد، وَذكر وَاسع.
وَلَقَد نَعته رجال التراجم فِيمَا نعتوه بِهِ بِأَنَّهُ صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ بهَا الركْبَان، وَمثل هَذَا لَيْسَ بِكَثِير على أَبى ذرّ، إِلَّا أَنا لم نظفر لَهُ إِلَّا بكتابه المطبوع فِي شرح غَرِيب سيرة ابْن إِسْحَاق، الّذي سَمعه ابْن فرتون عَلَيْهِ، وَكتاب آخر فِي الْعرُوض، ذكره ابْن الْآبَار وَلم يسمّه، وَكتاب ثَالِث ذكره السُّيُوطِيّ فِي البغية فِي أثْنَاء حَدِيثه عَن أَبى ذرّ، فَقَالَ: « ... تكرّر فِي جمع الْجَوَامِع من تصانيفه الْإِمْلَاء على سيرة ابْن هِشَام» .
هَذَا كلّ مَا عَرفْنَاهُ عَن مؤلفات أَبى ذرّ، إِلَّا أَنا لَا ننسى أَنه كَانَ حَامِل لِوَاء الْعَرَبيَّة بالأندلس، وَأَنه كَانَ عَارِفًا بالآداب واللغات، وَأَنه أحد من قرض الشّعْر، وَكَانَ لَهُ نقادا، كَمَا كَانَ مُطلق الْعَنَان فِي معرفَة أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَأَشْعَارهَا ولغاتها، مُتَقَدما فِي كل ذَلِك، وَأَنه لم يكن فِي وقته أضبط مِنْهُ، وَلَا أتقن فِي جَمِيع الْعُلُوم، حفظا وقلما.
وَأما أَخْلَاق أَبى ذرّ الْمَالِكِي الْمَذْهَب، فقد كَانَ ذَا سمت ووقار، وَفضل وَدين ومروءة، كثير الْحيَاء، وقور الْمجْلس، مَعْرُوفا بِالْهدى على سنَن السّلف. يحْكى عَنهُ أَنه كَانَ يمْنَع تلاميذه من التبسط فِي الأسئلة، وَأَنه كَانَ يقصرهم على مَا يلقى إِلَيْهِم وَلم يكن ذَلِك لأحد من عصره، هَيْبَة لَهُ، وخشية مِنْهُ.