ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ ١ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا: أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ: ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ ٢ ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا. ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا. فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ ٣ ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فَلِقَةٌ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا، وَلَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدِ.
(الرُّؤْيَا تَذِيعُ فِي قُرَيْشٍ) :
ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ، فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صِدِّيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ، وَاسْتَكْتَمَهُ إيَّاهَا. فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ بِمَكَّةَ، حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا.
(مَا جَرَى بَيْنَ أَبى جهل وللعباس بِسَبَبِ الرُّؤْيَا) :
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ لِأَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إلَيْنَا، فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ:
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ، قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبْ
() انفروا، تحريضا لَهُم، أَي إِن تخلفتم فَأنْتم غدر لقومكم. وَفتحت لَام الاستغاثة لِأَن الْمُنَادِي قد وَقع موقع الِاسْم الْمُضمر، وَلذَلِك بنى، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ لَام الاستغاثة، وَهِي لَام جر، فتحت كَمَا تفتح لَام الْجَرّ إِذا دخلت على الْمُضْمرَات. وَهَذَا القَوْل إِنَّمَا هُوَ على رِوَايَة الشَّيْخ وَمَا وَقع فِي أَصله، وَأما أَبُو عبيد فَقَالَ فِي المُصَنّف: تَقول: يَا غدر، أَي يَا غادر. فَإِذا جمعت قلت: يَا آل غدر» .
١ مثل بِهِ: قَامَ بِهِ.
٢ يُقَال: إِن هَذَا الْجَبَل سمى كَذَلِك بِرَجُل هلك فِيهِ من جرهم، اسْمه: قبيس بن شالخ.
٣ ارفضت: تفتت.