*
مقدمة المؤلف
...
رياض الصالحين
تأليف: الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقيّ ٦٣١ - ٦٧٦ هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمْدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ, العَزيزِ الغَفَّارِ, مُكَوِّرِ اللَّيْلِ على النَّهَارِ, تَذْكِرَةً لأُولي القُلُوبِ والأَبصَارِ, وتَبْصرَةً لِذَوي الأَلبَابِ واَلاعتِبَارِ, الَّذي أَيقَظَ مِنْ خَلْقهِ مَنِ اصطَفاهُ فَزَهَّدَهُمْ في هذهِ الدَّارِ, وشَغَلهُمْ بمُراقبَتِهِ وَإِدَامَةِ الأَفكارِ, ومُلازَمَةِ الاتِّعَاظِ والادِّكَارِ, ووَفَّقَهُمْ للدَّأْبِ في طاعَتِهِ, والتّأهُّبِ لِدَارِ القَرارِ, والْحَذَرِ مِمّا يُسْخِطُهُ ويُوجِبُ دَارَ البَوَارِ, والمُحافَظَةِ على ذلِكَ مَعَ تَغَايُرِ الأَحْوَالِ والأَطْوَارِ. أَحْمَدُهُ أَبلَغَ حمدٍ وأَزكَاهُ, وَأَشمَلَهُ وأَنْمَاهُ.
وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ البَرُّ الكَرِيمُ, الرؤُوفُ الرَّحيمُ, وأشهَدُ أَنَّ مُحمّداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ, وحبِيبُهُ وخلِيلُهُ, الهَادِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ, والدَّاعِي إِلَى دِينٍ قَويمٍ, صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ, وَعَلَى سَائِرِ النَّبيِّينَ, وَآلِ كلٍّ, وسائر الصالحين.
أَما بعد: فقد قال اللهُ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} الذريات٥٦, ٥٧ وَهَذا تَصْريحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقوا لِلعِبَادَةِ, فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ وَالإعْرَاضُ عَنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا بالزَّهَادَةِ, فَإِنَّهَا دَارُ نَفَادٍ لاَ مَحَلُّ إخْلاَدٍ, وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لاَ مَنْزِلُ حُبُورٍ, ومَشْرَعُ انْفصَامٍ لاَ مَوْطِنُ دَوَامٍ. فلِهذا كَانَ الأَيْقَاظُ مِنْ أَهْلِهَا هُمُ العبَّاد, وَأعْقَلُ النَّاسِ فيهَا هُمُ الزُّهّادُ. قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يونس: ٢٤
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. ولقد أَحْسَنَ القَائِلُ:
إِنَّ للهِ عِبَاداً فُطَنَا ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا
نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا ... صَالِحَ الأعمال فيها سفنا