ولم يرد بعذ المؤلفين حرب العامية، بل اعترف بها حفيدة شرعية للعربية الفصيحة، من بناتها المتعددات التي كانت القبائل تتحدث بها. فعنى كثير من المؤلفين عن العامية المصرية خاصة بهذه الصلات، وركزوا عليها الضوء، كما نرى عند محمد بن أبي السرور البكري في «القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب»، و «التحفة الوفائية في اللغة العامية المصرية» للسيد وفا محمد القوني.
واعترف بعض المؤلفين بالعامية لغة مكتملة، وعالجوها معالجة اللغات المستقلة، فحاولوا حصر مفرداتها. اضطلع بذلك محمد دياب في «معجم الألفاظ الحديثة» وحليم دموس في «قاموس العوام» وغيرهما.
كل هذا يدل على اهتمام القدماء باللغات العامية، على الرغم من اختلاف موقفهم منها رفضا أو قبولا، واصدارهم الكتب الكثيرة عنها. ولكن هذا الاهتمام زاد أضعافا في وقتنا الراهن. فقد لقيت العامية ما يشبه الاعتراف الرسمي بها.
اعتراف بما تضمه من أدب شعبي (فولكلوري)، أنتجه الشعب المتحدث بهذه العاميات معبراً عن وجدان÷، ذلك الأدب الذي التفتت اليه الأنظار، وركزت عليه الأضواء، وعنيت به الدراسات الأدبية، والفنية، والشعبية، التي تريد فهم هذه الشعوب، والخلوص الى خصائصها.
واعتراف بما تضمه من أدب عامي، أنتجه أدباء آثروا استخدامها على استخدام الفصحى، لأنهم عدوا العامية «لغة الحياة» التي ألهمتهم، ويحسون بظلالها ما لا يحسون قبل الفصحى. وصدر الديوان بعد الديوان فيها في السنوات الأخيرة.
ولكن هذا الأدب العامي ليس وليد اليوم. فان له أمثلة أو «بواكير» قديمة عند الأدباء السالفين، بدت فيما سموه الفنون الملحونة مثل الزجل والمواليا. وانما وجه الخلاف بين القديم والحديث في اتساع النطاق: اتساع شمل القصيدة كلها في العصر الحديث؛ واقتصر في القديم على الخرجة في الموشح خاصة، والكلمات والأبيات في غيره؛ واتساع شمل الدواوين في عصرنا، ولم يقع ذلك في القديم لغير الزجل.
وعلى الرغم من ذلك، وجدت الفنون الملحونة من أدباء الفصحى من عنى بها، ودونها، ودرسها، مثل صفي الدين الحلي في كتابه «العاطل الحالي. وابن حجة الحموي في كتابه «بلوغ الأمل» والابشيهي في «المستطرف في كل فن مستظرف» وغيرهم.