حِينَئِذٍ بِكاءٌ غَوازِرُ، وَعَبَّرَ الْفَارِسِيُّ عَنْهَا فَقَالَ: هِيَ نَحْوَ المُمانِحِ. وَفِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ حِينَ ذَكَرَ الإِبل وَوَطْأَها يومَ الْقِيَامَةِ صاحِبَها الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَقَالَ: إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي نَجْدَتِها ورِسْلِها
؛ قَالَ: النَّجْدَةُ الشِّدَّةُ، وَقِيلَ: السِّمَنُ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: نَجْدَتُهَا أَن تَكْثُرَ شُحُومُهَا حَتَّى يمنعَ ذَلِكَ صاحِبَها أَن يَنْحَرَهَا نَفَاسَةً بِهَا، فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ لَهَا مِنْ رَبِّهَا تَمْتَنِعُ بِهِ، قَالَ: ورِسْلُها أَن لَا يَكُونَ لَهَا سِمَن فيَهُونَ عَلَيْهِ إِعطاؤُها فَهُوَ يُعْطِيهَا عَلَى رِسْلِه أَي مُسْتَهيناً بِهَا، وكأَنَّ مَعْنَاهُ أَن يُعْطِيَهَا عَلَى مَشَقَّةٍ مِنَ النَّفْسِ وَعَلَى طِيبٍ مِنْهَا؛ ابْنُ الأَعرابي: فِي رِسْلِها أَي بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ قَالَ الأَزهري: فكأَنّ قَوْلَهُ فِي نَجْدتِها مَعْنَاهُ أَن لَا تطِيبَ نفسُه بإِعطائها وَيَشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ وَقَالَ الْمَرَّارُ يَصِفُ الإِبل وَفَسَّرَهُ أَبو عَمْرٍو:
لهمْ إِبِلٌ لَا مِنْ دياتٍ، وَلَمْ تَكُنْ ... مُهُوراً، وَلَا مِن مَكْسَبٍ غيرِ طائِلِ
مُخَيَّسَةٌ فِي كلِّ رِسْلٍ ونَجْدةٍ، ... وَقَدْ عُرِفَتْ أَلوانُها فِي المَعاقِلِ
الرِّسْل: الخِصْب. وَالنَّجْدَةُ: الشِّدَّةُ. وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: فِي نَجْدتها مَا يَنُوبُ أَهلها مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَغَارِمِ وَالدِّيَاتِ فَهَذِهِ نَجْدَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا. وَالرِّسْلُ: مَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ النَّجْدَةِ وَهُوَ أَن يَعْقِرَ هَذَا وَيَمْنَحَ هَذَا وَمَا أَشبهه دُونَ النَّجْدَةِ؛ وأَنشد لِطَرَفَةَ يَصِفُ جَارِيَةً:
تَحْسَبُ الطَّرْفَ عَلَيْهَا نَجْدَةً، ... يَا لَقَوْمي للشَّبابِ المُسْبَكِرْ
يَقُولُ: شَقَّ عَلَيْهَا النظرُ لنَعْمتها فَهِيَ ساجيةُ الطرْف. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ
أَبي هُرَيْرَةَ: أَنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِل لَا يؤَدِّي حقَّها فِي نَجْدتها ورِسْلِها وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى الله عليه وسلم: نَجْدتُها ورِسْلُها عُسْرُها ويُسْرُها إِلا بَرَزَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤه بأَخْفافِها، كُلَّمَا جَازَتْ عَلَيْهِ أُخْراها أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولاها فِي يَوْمٍ كَانَ مقدارُه خَمْسِينَ أَلف سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَقِيلَ لأَبي هُرَيْرَةَ: فَمَا حَقُّ الإِبِل؟ فَقَالَ: تُعْطِي الكرِيمةَ وتَمْنَعُ الغَزيرةَ «١» وتُفْقِرُ الظَّهْرَ وتُطْرِقُ الفَحْل.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ هُنَا: وَقَدْ رَوَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ لِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَجْدَتَها ورِسْلَها، قَالَ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فَسَّرَهُ أَبو سَعِيدٍ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: انْظُرْ إِلى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِفَالِ بِالنُّطْقِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بإِطلاق اللَّفْظِ، وَهُوَ لَوْ قَالَ إِن تَفْسِيرَ أَبي سَعِيدٍ قَرِيبٌ مِمَّا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَلَا سِيَّمَا وَالْقَوْلُ بِالْعَكْسِ؛ وَقَوْلُ صَخْرِ الْغَيِّ:
لوْ أَنَّ قَوْمي مِن قُرَيْمٍ رَجْلا، ... لَمَنَعُوني نَجْدَةً أَو رِسْلا
أَي لَمَنَعُونِي بأَمر شَدِيدٍ أَو بأَمر هَيِّنٍ. ورجلٌ نَجْد فِي الْحَاجَةِ إِذا كَانَ نَاجِيًا فِيهَا سَرِيعًا. والنَّجْدة: الشَّجَاعَةُ، تَقُولُ مِنْهُ: نَجُد الرجلُ، بِالضَّمِّ، فَهُوَ نَجِدٌ ونَجُدٌ ونَجِيدٌ، وَجَمْعُ نَجِد نَجُد أَنجاد مِثْلَ يَقِظٍ يَقُظٍ وأَيْقاظٍ وَجَمْعُ نَجِيد نُجُد ونُجَداء. ابْنُ سِيدَهْ: ورجُل نَجْدٌ ونَجِدٌ ونَجُد ونَجِيدٌ شُجَاعٌ مَاضٍ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ البأْس، وَقِيلَ: هُوَ السَّرِيعُ الإِجابة إِلى مَا دُعِيَ إِليه خَيْرًا كَانَ أَو شَرًّا، وَالْجَمْعُ أَنْجاد. قَالَ: وَلَا يُتَوَهَّمَنَّ أَنْجاد جَمْعُ نَجِيدٍ كَنَصيرٍ وأَنْصار قِيَاسًا عَلَى أَن فعْلًا
(١). قوله وتمنع الغزيرة كذا بالأَصل تمنع بالعين المهملة ولعله تمنح بالحاء المهملة