فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ يُكَلَّمُ، وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً
، وَمَا أَشبهه فَإِنَّ أَبا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَانَ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً لِعِبَادِهِ. وَعَنْ عِبَادِهِ قَبْلَ أَن يَخْلُقَهُمْ، وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ الْبَصْرِيُّونَ: كأَنَّ الْقَوْمَ شاهَدُوا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً فأُعْلِمُوا أَن ذَلِكَ لَيْسَ بِحَادِثٍ وأَن اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: كانَ وفَعَل مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعلم،. وَاللَّهُ عَفُوٌّ غَفُور؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، وأَما الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَمَعْنَاهُ يؤُول إِلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَسِيبَوَيْهِ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْحَالِ يَقِلُّ، وصاحبُ هَذَا الْقَوْلِ لَهُ مِنَ الْحُجَّةِ قَوْلُنَا غَفَر اللَّهُ لِفُلَانٍ بِمَعْنَى لِيَغْفِر اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ الْمَاضِي مؤدِّياً عَنْهَا اسْتِخْفَافًا لأَن اخْتِلَافَ أَلفاظ الأَفعال إِنَّمَا وَقَعَ لِاخْتِلَافِ الأَوقات. وَرَوِيَ عَنِ ابْنُ الأَعرابي فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
؛ أَي أَنتم خَيْرُ أُمة، قَالَ: وَيُقَالُ مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمة فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ:
أَعوذ بِكَ مِنَ الحَوْر بَعْدَ الكَوْنِ
، قَالَ ابْنُ الأَثير: الكَوْنُ مَصْدَرُ كَانَ التامَّة؛ يُقَالُ: كَانَ يَكُونُ كَوْناً أَي وُجِدَ واسْتَقَرَّ، يَعْنِي أَعوذ بِكَ مِنَ النَّقْصِ بَعْدَ الْوُجُودِ وَالثَّبَاتِ، وَيُرْوَى:
بَعْدَ الكَوْرِ
، بِالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ. الْجَوْهَرِيُّ: كَانَ إِذَا جَعَلْتَهُ عِبَارَةً عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ احْتَاجَ إِلَى خَبَرٍ لأَنه دَلَّ عَلَى الزَّمَانِ فَقَطْ، تَقُولُ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، وَإِذَا جَعَلْتَهُ عِبَارَةً عَنْ حُدُوثِ الشَّيْءِ وَوُقُوعِهِ اسْتُغْنَى عَنِ الْخَبَرِ لأَنه دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَزَمَانٍ، تَقُولُ: كانَ الأَمْرُ وأَنا أَعْرفُه مُذْ كَانَ أَي مُذْ خُلِقَ؛ قَالَ مَقَّاسٌ الْعَائِذِيُّ:
فِداً لبَني ذُهْلِ بْنِ شَيْبانَ ناقَتي، ... إِذَا كَانَ يومٌ ذُو كواكبَ أَشْهَبُ
قَوْلُهُ: ذُو كَوَاكِبَ أَي قَدْ أَظلم فبَدَتْ كواكبُه لأَن شَمْسَهُ كَسَفَتْ بِارْتِفَاعِ الْغُبَارِ فِي الْحَرْبِ، وَإِذَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ ظَهَرَتِ الْكَوَاكِبُ؛ قَالَ: وَقَدْ تَقَعُ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِكَ كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، وَمَعْنَاهُ زِيدٌ مُنْطَلِقٌ؛ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً*
؛ وَقَالَ أَبو جُندب الهُذَلي:
وكنتُ، إِذَا جَارِي دَعَا لمَضُوفةٍ، ... أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَري
وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَلَيْسَ يُخْبِرُ بِكُنْتُ عمَّا مَضَى مِنْ فِعْلِهِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ عِنْدَ انْقِضَاءِ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ: كَانَ تَكُونُ بِمَعْنَى مَضَى وتَقَضَّى، وَهِيَ التَّامَّةُ، وتأْتي بِمَعْنَى اتِّصَالِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَهِيَ النَّاقِصَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا بِالزَّائِدَةِ أَيضاً، وتأْتي زَائِدَةً، وتأَتي بِمَعْنَى يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ؛ فَمِنْ شَوَاهِدِهَا بِمَعْنَى مَضَى وَانْقَضَى قَوْلُ أَبي الْغُولِ:
عَسَى الأَيامُ أَن يَرْجِعنَ ... قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا
وَقَالَ ابْنُ الطَّثَرِيَّة:
فَلَوْ كنتُ أَدري أَنَّ مَا كانَ كائنٌ، ... وأَنَّ جَدِيدَ الوَصْلِ قَدْ جُدَّ غابِرُهْ
وَقَالَ أَبو الأَحوصِ:
كَمْ مِن ذَوِي خُلَّةٍ قبْلي وقبْلَكُمُ ... كَانُوا، فأَمْسَوْا إِلَى الهِجرانِ قَدْ صَارُوا
وَقَالَ أَبو زُبَيْدٍ:
ثُمَّ أَضْحَوْا كأَنهُم لَمْ يَكُونوا، ... ومُلُوكاً كَانُوا وأَهْلَ عَلاءِ