وَقَالَ الفَرَّاء فِي قَول الله جلّ وعزّ: {كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ} (المُلك: ٤) يُرِيد يَنْقَلِب صاغِراً وَهُوَ حَسِيرٌ أَي كليلٌ كَمَا تَحْسِرُ الإبِل إِذا قُوِّمَتْ عَن هُزَال وَكَلال، وَهِي الحَسْرَى، وَاحِدهَا حَسِيرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْله عزّ وجلّ: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً} (الإسرَاء: ٢٩) .
قَالَ: نَهَاه أَن يُعْطِيَ كُلَّ مَا عِنْده حَتَّى يَبْقَى مَحْسُوراً لَا شَيْء عِنْده.
قَالَ: والعَرَبُ تَقول: حَسَرْتُ الدَّابَّة إِذا سَيّرْتَها حَتَّى يَنْقَطِع سَيْرُها، وَأما البَصَرُ فَإِنَّهُ يَحْسُرُ عِنْد أقْصَى بُلُوغ النّظر.
وَقَالَ أَبُو الهَيْثَم: حُسِرَت الدَّابَّةُ حَسْراً إِذا أُتْعِبَتْ حَتَّى تَبْقَى، واستحسرت إِذا أَعْيَتْ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} (الأنبيَاء: ١٩)
وَفِي الحَدِيث: (الحسير لَا يعقر) لَا يجوز للغَازِي إِذا حُسِرَت دابَّتُه وقَوَّمَتْ أَن يَعْقِرها مخافَةَ أَن يَأْخُذهَا العَدُوُّ، وَلَكِن يُسَيِّبُها.
وَقَالَ غَيره: يُقَال للرّجَّالة فِي الْحَرْب الحُسَّر، وَذَلِكَ أَنهم يَحْسِرونَ عَن أَيْدِيهم وأَرْجُلِهم.
وَقَالَ بَعضهم: سُمُّوا حُسَّرا لِأَنَّهُ لَا دُرُوعَ عَلَيْهِم وَلَا بَيْض، والحَاسِرُ: الَّذِي لَا بَيْضَةَ على رأسِه، وَقَالَ الأعْشى: يصف الدَّارعَ والحاسِر:
تَعْصِفُ بالدَّارِع والحَاسِرِ
وَفِي فتح مَكَّة أَن أَبَا عُبَيدة كَانَ يومئذٍ على الحُسَّر وهم الرَّجَّالَة، وَيُقَال للَّذين لَا دروع لَهُم.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق فِي قَول الله عزّ وجلّ: {هُمْ خَامِدُونَ ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ} (يس: ٣٠) هَذَا أَصْعَب مَسْأَلَة فِي الْقُرْآن إِذا قَالَ الْقَائِل: مَا الْفَائِدَة فِي مُناداة الحَسْرة، والحَسْرةُ مِمَّا لَا تُجِيب، قَالَ: والفائدة فِي مناداتها كالفائدة فِي مُناداة مَا يعقل، لِأَن النِّداءَ بابُ تَنْبِيه. إِذا قلت: يَا زَيْدُ، فَإِن لم تكن دَعوته لتخاطبه بِغَيْر النداء فَلَا معنى للْكَلَام، إِنَّمَا تَقول: يَا زيد لتنبهه بالنداء، ثمَّ تَقول لَهُ: فعلت كَذَا، أَلا تَرَى أَنَّك إِذا قلت لمن هُوَ مقبل عَلَيْك: يَا زيدُ، مَا أَحسنَ مَا صَنَعْتَ فَهُوَ أوكَدُ من أَن تَقول لَهُ: مَا أحسنَ مَا صنعت بِغَيْر نِدَاء، وَكَذَلِكَ إِذا قلت للمخاطب: أَنَا أعجَبُ مِمَّا فعلت، فقد أفدته أَنَّك مُتَعَجِّب، وَلَو قلت: واعَجَبَاهُ ممَّا فَعَلْت، وَيَا عجباه أتفعل كَذَا كَانَ دُعَاؤُك العَجَب أبلغ فِي الْفَائِدَة، وَالْمعْنَى يَا عَجَبَا أَقْبِلْ فَإِنَّهُ من أَوْقَاتِك، وَإِنَّمَا النداء تَنْبِيه للمتعَجَّب مِنْهُ لَا للعَجَب، والحَسْرَةُ أَشَدُّ النَّدَم حَتَّى يبْقى النَادِمُ كالحَسِيرِ من الدوَابِّ الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ.
وَقَالَ الله جلّ وعزّ: {مَن يَشَآءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} (فَاطِر: ٨) . وَهَذَا نَهْيٌ مَعْنَاهُ الْخَبَر، المَعْنَى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سوء عمله فأضله الله ذَهَبَتْ نَفْسُك عَلَيْهِم حَسْرةً وتَحسُّراً، وَيُقَال حَسِر فلَان يحسَر حَسْرَةً وحَسَراً إِذا اشتدت ندامتُه على أمرٍ فَاتَهُ، وَقَالَ المَرَّار:
مَا أَنَا اليومَ على شيْء خَلَا
يَا ابْنَةَ القَيْن تَوَلَّى بِحَسِرْ