فَبَقيَ لَهُ عَلَيْهِ خَمْسمِائَة دِرْهَم، فَقَالَ: أيْشٍ أصنعُ بِهِ؟ قَالَ: تصدَّقْ بِهِ.
قَالَ: وَكَانَ أعدّ دَارا لكلِّ من يَقدَم عَلَيْهِ من المستفيدين، فيأمر بإنزاله فِيهَا ويُزيح علّته فِي النَّفَقَة والوَرَق، ويوسِّع النّسخ عَلَيْهِ.
قلت: وَلابْن هانىء هَذَا كتابٌ كَبِير يُوفيِ على ألفي ورقة فِي (نَوَادِر الْعَرَب وغرائب ألفاظها) ، وَفِي (الْمعَانِي والأمثال) . وَكَانَ شِمر سمع مِنْهُ بعضَ هَذَا الْكتاب وفرّقه فِي كتبه الَّتِي صنّفها بِخَطِّهِ. وحُمِل إِلَيْنَا مِنْهُ أَجزَاء مجلدة بسوادٍ بخطَ متقَن مضبوط. فَمَا وَقع فِي كتابي لِابْنِ هانىء فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة.
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ المَرْوَزيّ، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن معبد السِّنجي: وسِنْج: قَرْيَة بمَرْو.
فأمّا أَبُو معَاذ فَلهُ كتابٌ فِي الْقُرْآن حسن. وَأما أَبُو دَاوُد فَإِنَّهُ جالسَ الأصمعيّ دهراً وَحفظ عَنهُ آداباً كَثِيرَة، وَكتب مَعَ ذَلِك الحَدِيث. وَكَانَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق السَّعْدِيّ لقِيه وَكتب عَنهُ ووثّقه، وَسَأَلَهُ عَن حُرُوف استغربها فِي الحَدِيث ففسَّرها لَهُ.
وَيَتْلُو هَذِه الطَّبَقَة أَبُو عَمْرو شِمْر بن حَمْدُويه الهرَويّ: وَكَانَت لَهُ عناية صَادِقَة بِهَذَا الشَّأْن، رَحل إِلَى الْعرَاق فِي عنفوان شبابه فَكتب الحَدِيث، وَلَقي ابْن الْأَعرَابِي وَغَيره من اللغويين، وَسمع دواوين الشّعْر من وُجُوه شتّى، وَلَقي جمَاعَة من أَصْحَاب أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَأبي زيد الْأنْصَارِيّ، وَأبي عُبَيْدَة، والفرّاء. مِنْهُم: الرياشيُّ، وَأَبُو حَاتِم، وَأَبُو نصر، وَأَبُو عدنان، وَسَلَمَة بن عَاصِم، وَأَبُو حسّان. ثمَّ لمّا رَجَعَ إِلَى خُرَاسَان لقِيَ أَصْحَاب النَّضر بن شُمَيل، وَاللَّيْث بن المظفر، فَاسْتَكْثر مِنْهُم.
وَلما ألْقى عَصَاهُ بهراة ألّف كتابا كَبِيرا فِي (اللُّغَات) أسّسه على الْحُرُوف الْمُعْجَمَة وابتدأ بِحرف الْجِيم، فِيمَا أَخْبرنِي أَبُو بكر الْإِيَادِي وَغَيره مِمَّن لقِيه، فأشبعه وجوّده، إلاّ أَنه طوّله بالشواهد وَالشعر وَالرِّوَايَات الجمّة عَن أَئِمَّة اللُّغَة وَغَيرهم من الْمُحدثين، وأودعه من تَفْسِير الْقُرْآن بالروايات عَن المفسِّرين، وَمن تَفْسِير غَرِيب الحَدِيث أَشْيَاء لم يسْبقهُ إِلَى مثله أحدٌ تقدّمه، وَلَا أدْرك شأوه فِيهِ من بعده. وَلما أكمل الْكتاب ضنَّ بِهِ فِي حَيَاته وَلم يُنْسِخْه طُلَاّبَه، فَلم يُبارَك لَهُ فِيمَا فعله حَتَّى مضى لسبيله. فاختزلَ بعضُ أَقَاربه ذَلِك الكتابَ من تركته، واتصل بِيَعْقُوب بن اللَّيْث السِّجزيّ فقلّده بعض أَعماله واستصحبه إِلَى فَارس ونواحيها. وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ ذَلِك الكتابُ فِي سفر وَلَا حضر. ولمّا أَنَاخَ يَعْقُوب بن اللَّيْث بسِيبِ بني ماوان من أَرض السوَاد وحطّ بهَا سَواده، وَركب فِي جمَاعَة الْمُقَاتلَة من عسكره مقدِّراً لِقَاء الموفَّق وَأَصْحَاب السُّلْطَان، فجُرَّ المَاء من