الدخان.. ماهيته.. وزمن وقوعه
السُّؤَالُ
ـسمعت أن من إحدى علامات الساعة الكبرى (الدخان) .. فما معناه؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الدخان يطلق في اللغة على ما يتصاعد عند إيقاد الحطب، وهذا الدخان المذكور اختلف في ماهيته وفي زمن وقوعه، فقيل المراد به ما أصاب قريشا من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يستجيبوا له، فأصبحوا يرون السماء كهيئة الدخان.
جاء في التحرير والتنوير: قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الدخان في الآية هو: الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف، وأن الغبار يسميه العرب دخانا، وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف.
وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عه وتبعه جماعة من السلف؛ فقد قال رضي الله عنه: خمس قد مضين: اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان. صحيح البخاري.
ولما حدث رجل من كندة عن الدخان وقال: إنه يجيئ دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، غضب ابن مسعود رضي الله عنه وقال: من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم لا أعلم، فإن الله قال لنبيه: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين، وإن قريشا أبطؤوا الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان. رواه البخاري ومسلم.
وقيل: إن هذا الدخان من الآيات المنتظرة التي لم تجئ بعد، وسيقع قرب قيام الساعة، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وبعض الصحابة والتابعين، فقد روى الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن........ - إلى أن قال - مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تعالى (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) أي: بين واضح يراه كل أحد، على أن ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما كان هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله (يغشى الناس) أي: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه (يغشى الناس)
وقد ذهب بعض العلماء إلى الجمع بين هذه الآثار بأنهما آيتان ظهرت إحداهما وبقيت الأخرى وهي التي ستقع آخر الزمان. قال القرطبي: قال مجاهد: كان ابن مسعود يقول: هما دخانان قد مضى أحدهما، والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة، وأما الكافر فتثقب مسامعه.
وقال النووي في شرح مسلم تحت هذا الحديث: هذا الحديث يؤيد قول من قال إن الدخان يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وأنه لم يأت بعد وإنما يكون قريبا من قيام الساعة، وقال ابن مسعود: إنما هو عبارة عما نال قريشا من القحط حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان، وقد وافق ابن مسعود جماعة، وقال بالقول الآخر حذيفة وابن عمر والحسن ورواه حذيفة عن النبي وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما، ويحتمل أنهما دخانان للجمع بين هذه الآثار. انتهى.
وقال القرطبي في التذكرة: قال ابن دحية: والذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين إحداهما وقعت وكانت الأخرى ستقع وتكون، فأما التي كانت فهي التي كانوا يرون فيها كهيئة الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من الأشراط والعلامات، ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة، وقول ابن مسعود رضي الله عنه لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من تفسيره، وقد جاء النص عن رسول الله بخلافه.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٠ جمادي الأولى ١٤٢٩