جواب شبهة حول قوله تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
السُّؤَالُ
ـفى الآية رقم ١٣ من سورة السجدة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، فهل معنى هذه الآية أن الله هو الذي يحدد الإنسان أن يكون كافرا أو مؤمنا وليس النفس؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب عما سألت عنه، نريد أولاً أن ننبهك إلى أن الواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم لا معقب لحكمه، كما قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:٢٣} ، والله عز وجل عدل لا يظلم أحداً من خلقه مثقال ذرة: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {فصلت:٤٦} ، إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ {النساء:٤٠} .
وفيما يتعلق بموضوع سؤالك فننقل لك ما أورده الشوكاني في تفسير الآية الكريمة، حيث قال: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. هذا رد عليهم لما طلبوا الرجعة: أي لو شئنا لآتينا ك ل نفس هداها فهدينا الناس جميعاً فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس: في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة: أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. وجملة لو شئنا مقدرة بقول معطوف على المقدر قبل قوله أبصرنا أي ونقول لو شئنا، ومعنى ولكن حق القول مني أي نفذ قضائي وقدري وسبقت كلمتي لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، هذا هو القول الذي وجب من الله وحق على عباده ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا، لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى. انتهى.
وعلى أية حال، فالله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال سبحانه وتعالى: مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف:١٧٨} ، وقال تعالى: مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ {الأعراف:١٨٦} ، وغير ذلك من الآيات، لكن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد إلا على فعله وكسبه وتصرفه، فقد أعطاه عقلا وسمعاً وإدراكاً وإرادة ليعرف الخير من الشر، والضار من النافع، قال الله تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {التكوير:٢٨} ، وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {الشمس:٩-١٠} ، وقال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {الإنسان:٣} ، وبذلك تعلقت التكاليف الشرعية به من الأمر والنهي، واستحق الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ومعلوم أن جبر المرء على الأفعال هو أن يقهر عليها قهراً، دون رغبة ولا اختيار منه، كما يجبر السجين على دخول السجن ونحو ذلك، وأن يحال بينه وبين ما يريد، كما في حال سفينة البحر إذا أراد نوتيها توجيهها إلى جهة معينة وعصفت بها الريح فحولت اتجاهها إلى جهة أخرى، وكل عاقل يدرك أنه فاعل بالاختيار، يأتي المعصية باختياره وإرادته، كما يقوم بالطاعة بإرادته واختياره، وعلم الله السابق بحال هذا الإنسان ومصيره لا يعني أن الإنسان مجبور على سلوك طريق معين، بل قد جعل الله له الاختيار، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {الكهف:٢٩} .
فالحاصل أن الله هو الذي قد حدد في الأزل من سيكون كافراً أو مؤمناً من خلقه، وقدر ذلك تقديراً، ولكنه حجب علمه عن خلقه، وأعطاهم وسائل التصرف والاختيار، وبين لهم طرق الهداية والفلاح، وحذرهم من طرق الشقاوة والهلاك، فكانوا ينساقون باختيارهم وإرادتهم إلى ما يريدونه من الفعل أو الترك، فيستحقون طبقاً لذلك أن يثابوا أو يعاقبوا.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٠٢ صفر ١٤٢٨