مدى اعتبار كون حداثة العهد بالإسلام أحد موانع التكفير
السُّؤَالُ
ـيذكر العلماء أن أحد موانع التكفير هو حداثة العهد بالإسلام. فكم هي مدة حداثة العهد بالإسلام حتى بعدها لا نقول على المسلم إنه حديث عهد بالإسلام ويزول عنه هذا المانع؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولاً أن ما ذكرته من كون حداثة العهد بالإسلام أحد موانع التكفير، ليس على إطلاقه، وإنما مُراد من أطلق ذلك من أهل العلم أن الغالب في حديث العهد بالإسلام الجهلُ بكثير من أحكامه الضرورية، فلا يُكفر من هذه حاله حتى يُبين له، ولذا يقرنونه بمن نشأ ببادية بعيدة ونحو ذلك، ومرادهم بذلك التمثيل لمن هو مظنة الجهل بأحكام الشرع، فيُعذر بجهله، وبه تعلم أن مناط العذر والمنع من التكفير هو الجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وليس حداثة العهد بالإسلام، فمن أنكر ما يُعلم بالضرورة أنه من دين الإسلام كالصلوات الخمس وصوم رمضان، كفر إن كان عالماً به، وكانت الحجةُ قامت عليه بثبوته، وإن كان حديث عهد بإسلام، وإنما ذكر العلماء حداثة العهد بالإسلام والنشوء ببادية بعيدة ونحو ذلك، على جهة التمثيل لمن يمكن أن يقع منه إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يُطلق عليهم وصف الكفر لوجود المانع وهو الجهل، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في بيان شروط التكفير أو التفسيق: ومن أهم الشروط أن يكون عالما بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرا أو فاسقا لقوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {النساء: ١١٥} .. وقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.. {التوبة: ١١٥-١١٦} .
ولهذا قال أهل العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يبين له. انتهى.
وهذه شذرةٌ نفيسة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية تبين لك ما ذكرناه، من أن العلماء يذكرون وصف حداثة العهد بالإسلام تمثيلاً لمن يمكن أن يقع منهم الجهل بضروريٍ من ضروريات الشرع، فيُعذرون لجهلهم، وكذا كلُ من لم تقم عليه الحجة، فإنه لا يُكفر ولا يفسق ولا يبدع إلا بعد إقامتها، يقول الشيخ رحمه الله:
هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيا عن أن يُنسب معيَّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحُجَّة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارةً، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى. وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبريَّة القوليَّة، والمسائل العمليَّة. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحدٌ منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية ... وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير مَنْ يقول كذا وكذا، فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ... والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يُكفَّر بجَحْد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجَّة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئا. انتهى.
وبهذا يتبين لك أنه ليس بنا كبير حاجة إلى معرفة الضابط الذي يسمى به المرء حديث عهد بإسلام، والذي يزول عنه به هذا الاسم، على أننا لم نجد حسب التتبع من أشار إلى هذه المسألة، أو حد هذا الأمر بحدٍ معين، وذلك لما عرفناك آنفا من أن المراد ضرب المثل لمن كان مثله يصدرُ عنه الجهل بالمكفر، فلا يُطلق عليه حكم التكفير إلا بعد إقامة الحجة.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٠ جمادي الثانية ١٤٣٠