دفاع عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
السُّؤَالُ
ـلدي بعض الاستفسارات حول ما ينسب إلى أمير المؤمنين أبي حفص عمر رضي الله تعالى عنه، أرجو الإجابة عليها للضرورة القصوى:
أولاً - ما حقيقة إلغائه رضي الله عنه لسهم من أسهم الزكاة (المؤلفة قلوبهم) علماً أن هذا السهم جاء بآية في كتاب الله العزيز أي هو تشريع من الله؟
ثانياً - ما حقيقة أنه رضي الله عنه عطل حد السرقة عندما جاءت فترة جدب وجوع علماً أنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المسلمون يعيشون في شظف ومع ذلك حذر الله ورسوله بالآيات والأحاديث الصحيحة من التعدي على حدوده وأمر بإقامتها؟
ثالثاً - ما حقيقة تعطيله رضي الله عنه لحد الردة؟
رابعاً - هل ما ورد في كتاب ابن كثير وما نقله ابن القيم رحمهما الله عن العهدة العمرية هو أصح النصوص؟
أخيراً هل يكون عمل عمر بذلك مردودا عليه وهو مجتهد ولكنه لا يلزم أحدا ولا يحتج به عند أحد من بعده باعتباره مخالفاً لنصوص صريحة؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عمر رضي الله تعالى عنه كان على درجة كبيرة من العلم والفهم والفضل والاستقامة على الطاعة، وراجع كتب الحديث والسير فهي طافحة بذكر مآثر عمر وعلمه وحرصه على اتباع الحق، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم، وقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم، وإني لأحسب علم عمر لو وضع في كفة الميزان وعلم من بعده لرجح عليه علم عمر، وقد جاء الوحي بموافقته في كثير من اجتهاداته كما سبق ذكره في الفتوى رقم: ٦٢٩٨٤. ... ...
واعلم أنه لا اعتبار عند السلف لقول أي مجتهد عند مخالفته لنص صريح صحيح من نصوص الوحي، فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة: وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بأراء الرجال ولا يقرون المعارض على ذلك وكان عبد الله بن عباس يحتج في مسألة متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا فلما أكثروا عليه، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر، ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له: إن أباك نهى عنها فقال: إن أبي لم يرد ما تقولون فلما أكثروا عليه قال: أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم عمر.
وأما المسائل المذكورة فقد تكلم فيها العلماء فلم يذكروا أن أحدا من الصحابة خطأ فيها عمر ولا اتهمه بمخالفة الوحي، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه إنما لم ير إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة لعدم الحاجة لتأليفهم نظرا لانتشار الإسلام وقوته، قال في مجموع الفتاوى: وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب كإعطاء المؤلفة قلوبهم فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عٌدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك. أهـ.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء من قديم، وقد رأى بعضهم سقوط المؤلفة قلوبهم من المصارف ورأى بعضهم خلاف ذلك ورأى بعضهم عدم إعطائهم زمن قوة الإسلام لعدم الحاجة لتأليفهم، فإن احتيج لذلك أعطوا من الزكاة وقد بين أقوالهم فيها ابن قدامة في المغني، والقرطبي في التفسير، فقال ابن قدامة في شأن المؤلفة: وأحكامهم كلها باقية وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن علي وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعز الله تعالى الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال، فلا يعطى مشرك تألفا بحال، قالوا: وقد روي هذا عن عمر، ولنا كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء، وكان يعطي المؤلفة كثيرا، في أخبار مشهورة , لم يزل كذلك حتى مات. ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم، أو بقول صحابي أو غيره على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك لها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنة قال الزهري لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة فإذا وجد عاد حكمه، كذا هنا.
وقال القرطبي في التفسير: واخلتف العلماء في بقائهم (يعني المؤلفة قلوبهم) فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره، وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي، قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم وقال جماعة من العلماء: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين قال يونس سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخا في ذلك، قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه، قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة، وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في الصحيح: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ.
وفي الموسوعة الفقهية: اختلف الفقهاء في صنف المؤلفة قلوبهم: فالمعتمد عند كل من المالكية والشافعية والحنابلة أن سهم المؤلفة قلوبهم باق لم يسقط، وفي قول عند كل من المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة: أن سهمهم انقطع لعز الإسلام فلا يعطون الآن، لكن إن احتيج لاستئلافهم في بعض الأوقات أعطوا، قال ابن قدامة: لعل معنى قول أحمد: انقطع سهمهم أي لا يحتاج إليهم في الغالب أو أراد أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا فأما إن احتيج إلى إعطائهم جاز الدفع إليهم فلا يجوز الدفع إليهم إلا مع الحاجة، وقال الحنفية: انعقد الإجماع على سقوط سهمهم من الزكاة لما ورد أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا يطلبان من أبي بكر أرضا فكتب لهما بذلك فمرا على عمر فرأى الكتاب فمزقه وقال: هذا شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم والآن قد أعز الله الإسلام واغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعا إلى أبي بكر فقالا ما ندري الخليفة أنت أم عمر؟ فقال هو إن شاء، ووافقه ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك.
قال ابن قدامة: المؤلفة قلوبهم ضربان: كفار ومسلمون، وهم جميعا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم، ثم ذكر المسلمين منهم فجعلهم أربعة أضرب: ١ ـ سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيعطون تثبيتا لهم، ٢ ـ قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفار ليسلموا، ٣ ـ صنف يراد بتأليفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار ويحموا من يليهم من المسلمين، ٤ ـ صنف يراد بإعطائهم من الزكاة أن يجبوا الزكاة ممن لا يعطيها، ثم ذكر ابن قدامة الكفار فجعلهم ضربين: ١ ـ من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام، ٢ ـ من يخشى شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه. أهـ.
وأما حكم المرتد فإن عمر كان يرى أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل، فقد أخرج الإمام مالك في الموطأ: أن رجلا قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس؟ فأخبره أن رجلا كفر بعد إسلامه قال ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه، قال عمر: أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وقد نقل البيهقي في السنن عمل عثمان وعلي في خلافتهما باستتابة المرتد ثلاثا وقتله بعد ذلك إن لم يتب.
ومن الأدلة على قتل من رجع عن الإسلام سواء كان رجلا أو امرأة ولم يتب قوله صلى الله عليه وسلم: ومن بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري.
ومن الأدلة على عدم قتل من تاب من المرتدين عمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فلم يقتل صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من رجعوا للإسلام بعد ردتهم بل قبلوا منهم توبتهم. وللمزيد من التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع إلى الفتوى رقم: ١٣٩٨٧، وراجع في مسألة السرقة والعهدة العمرية الفتاوى التالية أرقامها: ٧٤٩٧، ٤٥٨٨١، ٢٥٠٦٩.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
١٠ ربيع الثاني ١٤٢٧