الفارق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق النفس
السُّؤَالُ
ـيا شيخ: أريد أن أسألك عن الحب في الله، والبغض في الله.
لي قريب أذهب معه ـ الروح بالروح ـ من أيام الصغار إلا أنه ابتلي بالتدخين وأنا أبغضه في الله لا لشيء آخر وعلاقتي معه الآن سطحية جداً يعني السلام فقط، فهل هذا يعتبر بغضا في الله؟.
ولي قريب آخر أحبه ويكرهني وأعتبره أكثر من أخ لي وهو يعتبرني مسلما يسلم عليه فقط ـ يعني من الله ـ وهو مهاب من حسن أخلاقه فقط، وأنا هكذا أحبه، ولكن في الآونة الأخيرة أصبحنا أصدقاء، هل هذا حب في الله؟ وعمري ١٤ سنة.
وجزاكم الله خير الجزاء.ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا نسأل الله أن يثبتك ويزيدك هدى واستقامة، وننصحك بالحرص على البعد عن الجلوس مع الزملاء المنحرفين وأن تواصل السير في طريق الهدى والاشتغال بحفظ القرآن والتفقه في الدين، ومصاحبة أهل الخير والحفاظ على الصلاة في المسجد وحضور مجالس العلم ومتابعة ما يبث منها عبر وسائل الإعلام.
ونفيدك أن المسلم يتعين عليه القيام بالتناصح مع إخوانه والتواصي معهم بالحق والصبر، عملاً بقول الله تعالى: وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {العصر:١-٢-٣} .
وعليه أن يتوخى في ذلك الحكمة والجدل بالحسنى عند الحاجة، عملاً بقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {النحل:١٢٥} .
فليحرص المسلم على إيضاح فكرته بالقول اللين والرفق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، عملاً بقوله تعالى لموسى لما أرسله لفرعون: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {طه:٤٤} .
وبقوله له: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى {النازعات:١٨} .
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: عليك بالرفق. رواه البخاري ومسلم.
وبقوله لها: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. رواه مسلم.
وأما الحب في الله فهو أمر مرغب فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء. رواه الترمذي. وقال حسن صحيح.
وفي الموطأ وصحيح ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ.
ولمزيد بيان عن فضل الحب في الله راجع الفتاوى التالية أرقامها: ١١٠٩، ٢٦٣٧٣، ٣٦٩٩٨، ويستحب لمن أحب شخصا ما في الله أن يُعلمه بحبه له، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر به رجل فقال يا رسول الله: إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعْلمته؟ قال: لا، قال: أعْلِمه. قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له. رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وضابط معرفة كون حبك لأخيك في الله أم لا هو: أن تحبه لطاعته لله مخلصا لله في ذلك لا لدنيا، وأن يزيد حبك له إذا زادت طاعته لله واستقامته على دينه، وأن يقل حبك له إذا خالف أمر الله وفرط في جنبه، قال ال مبارك فوري في شرح الترمذي: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله أي لا يحبه لغرض وعرض وعوض ولا يشوب محبته حظ دنيوي ولا أمر بشري، بل محبته تكون خالصة لله تعالى، فيكون متصفا بالحب في الله وداخلا في المتحابين لله. اهـ.
وانظر الفتوى رقم: ١٣٦٨٦.
واعلم أن البغض للمؤمن العاصي يكون بقدر معصيته كما يجب حبه بقدر طاعته
وأما الهجر للزملاء العصاة فيراعى فيه أمران أولهما: عدم الإفراط في مخالطتهم لئلا يتأثر بهم فيقلدهم أو يشاركهم في المعصية، وهذا أمر متعين على الشباب الصغار، وعليهم أن يجدوا في تحصيل صحبة صالحة تعين على الخير وتساعد على الثبات.
وثانيهما: هجر الشخص تأديبا له حتى يترك المعصية وهذا تراعى فيه المصلحة، فإن علم تأثره بهذا وأنه ستحصل بسببه التوبة وترك المعاصي فهو مطلوب، وإن علم عدم تأثره بذلك فالأولى تأليفه والصبر على مناصحته ومحاورته مع الدعاء له لعله يرجع إلى رشده، كما صبر الأنبياء على أممهم ولم يهجروهم، وهذا يختلف باختلاف البيئات التي يسكنها الناس، فإن هجر الشباب الملتزمين لمن يسكن في بلد جل أهله ملتزمون يؤثرعليه، كما حصل للثلاثة المذكورين في سورة التوبة، وأما من يسكن في بلد يتوفر فيه زملاء السوء فقد لا يتأثر من هجر الملتزمين، بل قد يدفعه هجرهم للارتماء في أحضان الفجار ومشاركتهم في أخلاقهم المنحطة، فالواجب المتعين على من رأى انحرافا في الزملاء أو المجتمع وأراد الإصلاح ممن لا سلطة له ولا سلطان يساعده إذا اطلع على أمر العصاة هو إنكار المعصية على فاعلها وترهيبه بنصوص الوحي من فعلها والتركيز على تقوية الإيمان وإصلاح القلوب وإتقان الصلاة والحرص على تقوية صلة النفوس بالله تعالى، والإكثار من الحديث عن الأسباب المعينة على خشية الله تعالى والرغبة في ما عنده واستشعار مراقبته والإكثار من الحديث عن الآخرة والقبر والجنة والنار والترغيب في ذكر الله تعالى وتعليم الأحكام الشرعية، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لاتزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
وقال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ {العنكبوت:٤٥} . وفي الحديث: وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن به، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل. رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه الألباني.
وقد دل الحديث على أن العلم بأحوال القبور والآخرة يقمع الشهوات والأهواء، وذلك حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني.
واعلم أن النصيحة يعظم أثرها إذا صحبها الدعاء الصادق، ومن هذا الباب ما رواه ابن أبي حاتم أن عمر رضي الله عنه، افتقد رجلاً من أهل الشام من أهل البأس، فقال: ما فعل فلان بن فلان، فقالوا: يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب يعني الخمر، قال: فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب من عمر بن الخطاب، إلى فلان بن فلان سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ثم قال: لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه ويتوب عليه، فلما بلغ الرجل الكتاب جعل يقرؤه ويردده ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي. زاد أبو نعيم: فلما بلغ عمر خبره، قال: هكذا اصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل زلة فسددوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
ولبيان فقه مسألة الهجر والحب في الله والبغض فيه، ننقل كلاما نفيسا لشيخ الإسلام فيها، فقد قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى:
الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات
والثاني: بمعنى العقوبة عليها.
فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام: ٦٨} . وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء: ١٤٠} .
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله، وفي الحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر.
وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الاسلام والايمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {المدثر:٥} .
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغيرعذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لأن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم هذا، كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية: هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراغير مأمور به كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله.
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه، لأن المؤمنين أخوة، وقد قال النبي في الحديث الصحيح: لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم.
وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادى في الله ويوالى في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ {الحجرات: ٩-١٠} . فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
١٤ شعبان ١٤٣٠