خطر التلبس بالمعاصي والبدع
السُّؤَالُ
ـأنا شاب من ليبيا وأبلغ من العمر ٢٣ سنة، وكنت فيما مضى غارق في بدع كثيرة جدا. منها زيارة الأضرحة السنوية والتبرك بها، وحضور احتفالات الصوفية، والاعتقاد في الأولياء. إلى غير ذلك الكثير، وأقع أيضا في كثير من المعاصي كالاستمناء وربما محادثة الفتيات. لكني الآن وبعد قراءتي لكتب أهل العلم، وسماع أشرطتهم عرفت أني على ضلال، وتركت البدع المضلة ولكني مازلت أقع في بعض الذنوب كالاستمناء ولكني أستغفر الله وأتوب إليه. والمشكلة أن أبي يجبرني على فعل بعض البدع كقراءة القرآن على الميت بما يسمى بالختمة،والدعاء الجماعي بعد الصلاة، ويغضب عندما أتركها ويصفني بالشاذ. وهو يحرجني وخاصة أمام أصدقائه الذين يرون تارك البدع شاذا. فما توجيهكم لي وما الذي علي فعله؟ وهل علي ترك المعاصي أولا ثم الاتجاه في ترك البدع لأن ذلك متناقض. كيف أترك البدع وأقع في الذنوب؟ علما بأن هذا ما أحدث به نفسي.وأني تارك الصلاة في المسجد. أفيدوني فأنا حائر؟ وجزاكم الله خيرا.ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يثبتك على الحق، وأن يجنبك مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. أما بالنسبة لوالدك فيجب عليك أن تحسن إليه في بره وصحبته بالمعروف، وإن كان على بدعة وضلالة، فقد أمر الله تعالى بذلك مع الوالد الكافر الذي يدعو ابنه للكفر ويأمره به، فما بالك بمن هو دونه، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.. {لقمان: ١٥} . وعليك بنصحه بالحكمة والموعظة الحسنة، لعل الله ينفعه بنصحك فيكون ذلك في ميزان حسناتك. فقد قال صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. متفق عليه. وينبغي أن يكون ذلك برفق ولين وحلم وصبر.
ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية عن الإمام أَحْمَد قال: إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ. اهـ.
فإن أثرت فيه النصيحة ورجع إلى الحق وترك هذه البدع، فهذا هو المطلوب والحمد لله على هدايته، وإن استمر فيما هو عليه، فجانبه في بدعته ولا تطعه في معصية الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الطاعة في المعروف. متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. رواه أحمد، وصححه الألباني. وراجع للأهمية الفتوى رقم: ١١٠٦١١. ولمزيد الفائدة يرجى الاطلاع على الفتويين: ٦١٩١١، ١٥٤٥٠.
وما أنت فيه من مخالطة المتلبسين بالبدع، هو من الغربة التي يمدح أهلها إن صبروا على التمسك بالسنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى للغرباء. فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. رواه أحمد وصححه الألباني. ولك فيه الأجر العظيم إن شاء الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله. قيل: يا رسول الله: أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر. رواه الحكيم الترمذي، وحسنه الألباني.
ثم اعلم أخي الكريم أن ما تفعله من الذنوب كترك الصلاة في المسجد والاستمناء ومحادثة الفتيات، مع ما فيه من ضرر في دينك ودنياك، فإنه مما يتسلط به مخالفوك عليك، ويصدهم عن قبول نصيحتك، فإن من شؤم المعصية هوان العبد على الناس وسقوطه من أعينهم.
قال ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: ومن عقوبات المعصية سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك فعاش بينهم أسوأ عيش، خال الذكر ساقط القدر زري الحال لا حرمة له.. اهـ. وننصحك بقراءة هذا الكتاب بأكمله، فإن معناه كاسمه.
وقد سبق لنا في عدة فتاوى التعرض لأنواع الذنوب التي ذكرتها، فيمكن في أمر صلاة الجماعة في المسجد مراجعة الفتوى رقم: ٥١٥٣. وفي مسألة حرمة الاستمناء وما فيه من أضرار بدينة ونفسية، مراجعة الفتويين: ٧١٧٠، ٢٣٨٦٨. وفي مسألة فتنة النساء والتحذير النبوي البليغ منها، مراجعة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: ٣٥٠٤٧، ٢٤٤٥٣، ٢٢٠٧٤، ٢٠٤١٥.
وأخيرا ننبه السائل الكريم على أن التلبس ببعض المعاصي لا يبرر فعل البدع ولا المشاركة فيها، فلا بد من اجتنابهما جميعا. واعلم أن البدع أشد خطرا من المعاصي، وأبغض عند الله منها، وأحب إلى إبليس، كما روى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة عن سفيان الثوري أنه كان يقول: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. اهـ.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٧ شعبان ١٤٣٠