الأدلة على أن رسم القرآن توقيفي
السُّؤَالُ
ـأشرتم في الفتاوى رقم ٢٦٩١٦ و ٧٥٥٢٦ و ٩٨٢١٨ إلى أن رسم القرآن سنة متبعة وأمر توقيفي صدر من الصحابة رضوان الله عليهم فيه ولا تجوز مخالفته، ولكنكم لم تذكروا الدليل على ذلك، خصوصاً أنه كما هو معروف فإن التشريع يؤخذ من النبي صلى الله عليه وسلم وليس من الصحابة إلا إذا كان إجماعاً، وفعل الصحابة هذا يجب أخذه في إطار أن معرفة الكتابة كانت نادرة في ذلك العصر ولم تكن اللغة قد تطورت بالصورة التي جاءت بعد، فما الأدلة الصريحة على أن رسم القرآن توقيفي ولا يجوز مخالفته، خصوصاً أن لفظ "توقيفي" تأخذ من طرف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما المانع من مخالفة الرسم القرآني الذي لم ينزل به (كألواح سيدنا موسى عليه السلام) وقد قام العلماء بعد ذلك بإضافة النقط والهمزات والتشكيل كما عليه اليوم مما غيّر من صورة الرسم القرآني بل ولم يعد الرسم القديم موجوداً كما كان في عصر الصحابة؟ـ
الفَتْوَى
خلاصة الفتوى:
من الأدلة الصريحة على أن رسم القرآن توقيفي إجماع الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ثم إجماع الأمة في القرون المشهود لها بالخير، فيمنع التغيير فيه حتى يظل كما كتب وقرئ عند نزوله..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن رسم القرآن الكريم توقيفي لا يجوز تغييره أو تبديله -كما سبق بيانه في عدة فتاوى- ودليل ذلك أنه كتب بهذا الرسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي عليه، واستمر عليه عمل الخلفاء الراشدين والإجماع عليه من بعدهم، ومن المعلوم أن الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة، ودليله منهما قول الله تبارك وتعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:١١٥} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.... الحديث رواه أحمد وغيره وقال الترمذي: حسن صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة. صححه الألباني.
وأما المانع من تغييره فهو الحفاظ عليه من أن تمتد إليه يد التغيير كما امتدت إلى غيره من الكتب السابقة، فكان ذلك سبباً لتحريفها وتبديلها ... ومن الموانع كذلك تحقيق حفظه -بمعنى الحفظ الشامل- تحقيقاً لقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:٩} ، فمن تمام حفظه أن يتلى بالكيفية التي نزل بها، ويكتب بالكيفية التي كتب بها عند نزوله، ولا سيما وأنه قد كتب بطريقة يستوعب بها القراءات المختلفة، ومنها كذلك المحافظة على الحكم والأسرار الموجودة في كتابته، فإذا خضع للكتابة بالإملاء الذي يتغير ويختلف باختلاف البيئات والعصور والمجامع اللغوية.. فإن هذه الحكم تزول ويصبح عرضة للتغيير والتبديل والتحريف ...
ونحب أن ننوه هنا إلى أن الحديث عن كتابة المصحف بغير الرسم العثماني قديم، فقد بحثه أئمة السلف قبل أكثر من ألف سنة، وقد جمع الجلال السيوطي نقولاً عنهم في الموضوع يتبين منها ما حكموا به في ذلك فرأينا إثباتها فيما يلي، قال الجلال السيوطي: قال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، رواه الداني في المقنع ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة.
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل: الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو: أولو. وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك.
ومحل مراعاة رسم القرآن هو عند كتابة مصحف أو ما هو خاص بالقرآن، وأما كتابة الآية أو الآيات للاستشهاد بها أو ما أشبه ذلك فلا مانع من كتابتها بالإملاء.. وأما ما أضافه علماء القراءات من الضبط للتوضيح للعامة وإزالة الإشكال ... فإنه لم يمس رسم القرآن من قريب أو بعيد ولم يغير فيه ولو حرفا واحداً.. وقد ظل هذا الضبط مميزاً عن الرسم بالكتابة وبالألوان وألفت فيه الكتب كما هو معلوم عند أهل الفن.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٨ شعبان ١٤٢٨