تواتر القراءات العشر
السُّؤَالُ
ـجمهور أهل العلم من القراء والأصوليين على أن القراءات السبع وكذلك العشر متواترة إلى النبي صلى الله عليه وسلم , وقد خالف في ذلك قلة من أهل العلم منهم أبو شامة والجزري فيما قاله في النشر وكذلك الشوكاني ونسب هذا القول إلى المدني والمهدوي كما هو في نيل الأوطار في أبواب صفة الصلاة , باب: الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبي حديث ٧٢١ , ٧٢٢ وذهبوا إلى أنه يجوز القراءة بأي قراءة سواء كانت من العشر أم من غيرها ما دام صح السند - مع عدم اشتراط التواتر بل يكفي أن يكون آحادا - مع موافقتها لرسم المصحف وموافقتها لوجه من العربية
هناك عدة أسئلة متعلقة بهذا الموضوع حتى يتم ثبوت إيضاح الحق
١- من لم يثبت التواتر في القراءات يقول ما الدليل على أن السند من أحد القراء كحمزة أو عاصم مثلا أنه متواتر حتى أن الصنعاني قال " أن الطرف الأول من سند هؤلاء القراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحابي كان أحاديا حيث قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو أحد الصحابة ليبلغه القرآن. نرجو الردعلى هؤلاء الأئمة مع عزو النقل إلى المصنفات ليتم الرجوع لهاـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالصحيح أن القراءات العشر متواترة، وأما السبع منها فقطعا بل نقل الإجماع عليه. قال العطار في حاشيته على الجلال المحلي: هذا الحكم مجمع عليه بين أهل السنة إلا من شذ من الحنفية كصاحب البديع، فإنه ذهب إلى أنها مشهورة، وذهب المعتزلة إلى أنها آحاد غير متواترة والمراد نفي التواتر عن قراءة الشيخ المخصوص بتمامها كنافع -مثلا- بل منها ما هو آحاد ومنها ما هو متواتر، وليس المراد نفي التواتر من أصله وإلا لزم نفي التواتر عن القرآن كله والإجماع خلافه.
قال الإمام النووي في المجموع: قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبعة , ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة ; لأنها ليست قرآنا , فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر , وكل واحدة من السبعة متواترة , هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه , ومن قال غيره فغالط أو جاهل , وأما الشاذة فليست متواترة , فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها , وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ , وقد ذكرت تفصيله في التبيان في آداب حملة القرآن. ونقل الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها , قال العلماء: فمن قرأ بالشاذ إن كان جاهلا به أو بتحريمه عرف ذلك , فإن عاد إليه بعد ذلك أو كان عالما به عزر تعزيرا بليغا إلى أن ينتهي عن ذلك , ويجب على كل مكلف قادر على الإنكار أن ينكر عليه , فإن قرأ الفاتحة في الصلاة بالشاذة - فإن لم يكن فيها تغير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصه صحت صلاته وإلا فلا , وإذا قرأ بقراءة من السبعة استحب أن يتم القراءة بها , فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبعة جاز بشرط أن يكون ما قرأه بالثانية مرتبطا بالأولى.
وأورد العطار في حاشيته على الجلال المحلي شبهتين ورد عليهما فقال: وهنا بحثان:
الأول: أن الأسانيد إلى الأئمة السبعة وأسانيدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما في كتب القراءة آحاد لا تبلغ عدد التواتر فمن أين جاء التواتر.
وأجيب بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم وإنما نسبت القراءة إلى الأئمة ومن ذكر في أسانيدهم والأسانيد إليهم لتصديهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها ومع كل منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر ; لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم , وكذلك دائما مع تلقي الأمة لقراءة كل منهم بالقبول.
الثاني: أن من القواعد أنه لا تعارض بين قاطعين , فلو كانت القراءات السبع متواترة لما تعارضت مع أنه وقع فيها ذلك.
وجوابه أنا نمنع التعارض ; لأن من قرأ بإحدى القراءتين لا ينكر الأخرى ولا يتأتى التعارض، إلا لو نفى قراءة غيره وشهرته بروايته واعتناؤه بها لا يقتضي أنه ينفي غيرها كأرباب المذاهب ... وقول الكوراني إن كلام ابن الحاجب لا وجه له ; لأن نقلة المدود هم نقلة القرآن ولو كان المد ونحوه غير متواتر لزم أن القرآن غير متواتر مردود بأن المتواتر أصل المد والذي قال ابن الحاجب بعدم تواتره ما يتحقق اللفظ بدونه وهو ما زيد في المد كما أشار لذلك الشارح ...
قال ابن الجزري في أول النشر: لا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب في ذلك , وقد نص أئمة الأصول على تواتر ذلك كله كالقاضي أبي بكر في كتابه الانتصار وغيره.
وقال الفتوحي الحنبلي في شرح الكوكب المنير: (و) القراءات (السبع متواترة) عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة من علماء السنة. نقله السرخسي من أصحاب الشافعي في كتاب الصوم من الغاية. وقال: قالت المعتزلة: آحاد انتهى. واستدل من قال: إنها آحاد كالطوفي في شرحه. قال: والتحقيق أنها تواترت عنهم لا إليهم - بأن أسانيد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع إلى النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في كتب القراءات. وهي نقل الواحد عن الواحد , لم تستكمل شروط التواتر. ورد بأن انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم. فقد كان يتلقى القراءة من كل بلد بقراءة إمامهم الذي من الصحابة أو من غيرهم: الجم الغفير عن مثلهم. وكذلك دائما , فالتواتر حاصل لهم , ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم فيها جاء السند من قبلهم. وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع هي آحاد , ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر. فينبغي أن يتفطن لذلك , ولا يغتر بقول من قال: إن أسانيد القراء تشهد بأنها آحاد. وإذا تقرر هذا , فاستثنى ابن الحاجب ومن تبعه من المتواتر ما كان من قبيل صفة الأداء , كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه. ومراده: مقادير المد وكيفية الإمالة لا أصل المد والإمالة. فإن ذلك متواتر قطعا. فالمقادير , كمد حمزة وورش. فإنه قدر ست ألفات. وقيل: خمس. وقيل: أربع. ورجحوه. ومد عاصم: قدر ثلاث ألفات , والكسائي: قدر ألفين ونصف وقالون: قدر ألفين , والسوسي: قدر ألف ونصف ونحو ذلك. وكذلك الإمالة تنقسم إلى محضة. وهي أن ينحني بالألف إلى الياء , وبالفتحة إلى الكسرة , وإلى بين بين. وهي كذلك , إلا أنها تكون إلى الألف والفتحة أقرب , وهي المختارة عند الأئمة. أما أصل التخفيف في الهمزة والتشديد فمتواتر , وأما كون أن من القراء من يسهله، ومنهم من يبدله ونحو ذلك. فهذه الكيفية هي التي ليست متواترة. ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك ; لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله. وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين؟ فعلمنا بهذا أن هذه الصفات ليست متواترة , وهو واضح. وهو ظاهر كلام أحمد وجمع , وكذلك قراءة الكسائي ; لأنها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام. كما نقله السرخسي في الغاية. فلو كان ذلك متواترا لما كرهه أحد من الأئمة. وزاد أبو شامة الألفاظ المختلف فيها بين القراء أي اختلفوا في صفة تأديتها. كالحرف المشدد , يبالغ بعضهم فيه حتى كأنه يزيد حرفا , وبعضهم لا يرى ذلك , وبعضهم يرى التوسط بين الأمرين , وهو ظاهر , ويمكن دخوله تحت قول ابن الحاجب في الاحتراز عنه في استثنائه ما ليس من قبيل الأداء , لكن قال ابن الجزري: لا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب إلى ذلك ; لأنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر هيئته ; إذ اللفظ لا يقوم إلا به , ولا يصح إلا بوجوده. اهـ.
وقال الزرقاني في مناهل العرفان: وقد يناقش هذا بأنها لو تواترت جميعا ما اختلف القراء في شيء منها لكنهم اختلفوا في أشياء منها فإذاً لا يسلم أن تكون كلها متواترة. ويجاب عن هذا بأن الخلاف لا ينفي التواتر بل الكل متواتر وهم فيه مختلفون فإن كل حرف من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن بلغه الرسول إلى جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب حفظا لهذا الكتاب وهم بلغوه إلى أمثالهم وهكذا ... ولا شك أن الحروف يخالف بعضها بعضا فلا جرم تواتر كل حرف عند من أخذ به وإن كان الآخر لم يعرفه ولم يأخذ به وهنا يجتمع التخالف والتواتر وهنا يستقيم القول بتواتر القراءات السبع بل القراءات العشر كما يأتي ويذهب ابن الحاجب إلى تواتر القراءات السبع غير أنه يستثني منها ما كان من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة قال البناني على جمع الجوامع: وكأن وجه ذلك أن ما كان من قبيل الأداء بأن كان هيئة للفظ يتحقق اللفظ بدونها كزيادة المد على أصله وما بعده من الأمثلة وما كان من هذا القبيل لا يضبطه السماع عادة لأنه يقبل الزيادة والنقصان بل هو أمر اجتهادي. وقد شرطوا في التواتر ألا يكون في الأصل عن اجتهاد فإن قيل قد يتصور الضبط في الطبقة الأولى للعلم بضبطها ما سمعته منه على الوجه الذي صدر منه من غير تفاوت بسبب تكرر عرضها ما سمعته منه قلنا: إن سلم وقوع ذلك لم يفد إذ لا يأتي نظيره في بقية الطبقات فإن الطبقة الأولى لا تقدر عادة على القطع بأن ما تلقته الثانية جار على الوجه الذي نطق به النبي. وبما تقرر علم أن الكلام فيما زاد على أصل المد وما بعده لا في الأصل فإنه متواتر الحاصل أنه إن أريد بتواتر ما كان من قبيل الأداء تواتره باعتبار أصله كأن يراد تواتر المد من غير نظر لمقداره وتواتر الإمالة كذلك فالوجه خلاف ما قال ابن الحاجب للعلم بتواتر ذلك وإن أريد تواتر الخصوصيات الزائدة على الأصل فالوجه ما قاله ابن الحاجب قاله ابن قاسم اهـ بقليل من التصرف لكننا إذا رجعنا لعبارة ابن الحاجب نجدها كما يقول في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ وهذا زعم صريح منه بأن المد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها من قبيل الأداء وأنها غير متواترة وهذا غير صحيح كما يأتيك نبؤه في مناقشة ابن الجزري له طويلا يذهب أبو شامة إلى أن القراءات السبع متواترة فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء. أما ما اختلفت الطرق في نقله عنهم فليس بمتواتر سواء أكان الاختلاف في أداء الكلمة كما ذهب ابن الحاجب أم في لفظها فالاستثناء هنا أعم مما استثناه ابن الحاجب وعبارة أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز نصها ما يأتي ما شاع على ألسنة جماعة من متأخري المقرئين وغيرهم من أن القراءات السبع متواترة ونقول به فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء السبعة دون ما اختلفت فيه بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق وذلك موجود في كتب القراءات لا سيما كتب المغاربة والمشارقة فبينهما تباين في مواضع كثيرة والحاصل أنا لا نلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء أي بل منها المتواتر وهو ما اتفقت الطرق على نقله عنهم وغير المتواتر وهو ما اختلفت فيه بالمعنى السابق وهذا بظاهره يتناول ما ليس من قبيل الأداء وما هو من قبيله اهـ نقلا عن الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع بتذييل منه ورأي أبو شامة هذا كنت أقول في الطبعة الأولى إنه أمثل الآراء فيما أرى وذلك لأمور أربعة أولها: أنه رأي سليم من التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة ثانيها: أنه يستند إلى الواقع في دعواه وفي دليله ذلك أن القراءات السبع وقع اختلاف بعضها حقيقة في النطق بألفاظ الكلمات تارة وبأداء تلك الألفاظ تارة أخرى ومن هنا كانت الدعوى مطابقة للواقع ثم إن دليله يقوم على الواقع أيضا في أن بعض الروايات مضطربة في نسبتها إلى الأئمة القراء فبعضهم نفاها وبعضهم أثبتها وذلك أمارة انتفاء التواتر لأن الاتفاق في كل طبقة من الجماعة الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب لازم من لوازم التواتر وقد انتفى هذا الاتفاق هنا فينتفي التواتر لما هو معلوم من أنه كلما انتفى اللازم انتفى الملزوم ثالثها: أن هذا الرأي صادر عن إخصائي متمهر في القراءات وعلوم القرآن وهو أبو شامة وصاحب الدار أدرى بما فيها رابعها: أن هذا الرأي يتفق وما هو مقرر لدى المحققين من أن القراءات قد تتوافر فيها الأركان الثلاثة المذكورة في ذلك الضابط المشهور وقد تنتفي هذه الأركان الثلاثة كلا أو بعضا لا فرق في هذا بين القراءات السبع وغير السبع على نحو ما تقدم ويتفق هذا الرأي أيضا وما صرحوا به من تقسيم القراءات باعتبار السند إلى ستة أقسام كما سبق استدراك لكني بعد معاودة البحث والنظر واتساع أفق اطلاعي فيما كتب أهل التحقيق في الشأن تبين لي أن أبا شامة أخطأه الصواب أيضا فيمن أخطأ وأنني أخطأت في مشايعته وتأييده ويضطرني إنصاف الحق أن أكر على الوجوه التي أيدته بها بين يديك فأنقضها وجها وجها والرجوع إلى الحق فضيلة ١ فرأي أبي شامة المسطور لم يسلم من مثل تلك التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة وسترى قريبا شدة مناقشته الحساب في كلام ابن الجزري ٢ ثم إن الغطاء قد انكشف عن أن القراءات السبع بل القراءات العشر كلها متواترة في الواقع وأن الخلاف بينها لا ينفي عنها التواتر، فقد يجتمع التواتر والتخالف كما بينا عند عرض رأي ابن السبكي وكما يستبين لك الأمر فيما يأتي من تحقيق ابن الجزري ٣ أما أن أبا شامة إخصائي متمهر فسبحان من له العصمة والكمال لله تعالى وحده على أن الذي رد عليه واخترنا رأيه وهو ابن الجزري إخصائي متمهر أيضا وإليه انتهت الزعامة في هذا الفن حتى إذا أطلق لقب المحقق لم ينصرف إلا إليه وكم ترك الأول للآخر ٤ وأما ما قرره المحققون من تقسيم القراءات إلى متواتر وغير متواتر فهو تقسيم لا يغني عن أبي شامة شيئا في رأيه هذا لأن كلامهم هناك كان في مطلق القراءات أما كلامنا وكلام أبي شامة هنا فهو في خصوص القراءات السبع ... وبينهما برزخ لا يبغيان
لقد علمت فيما سبق ما قيل في القراءات السبع من أنها متواترة أو غير متواترة أما القراءات الثلاث المكملة للعشر فقيل فيها بالتواتر ويعزى ذلك إلى ابن السبكي وقيل فيها بالصحة فقط ويعزى ذلك إلى الجلال المحلي وقيل فيها بالشذوذ ويعزى ذلك إلى الفقهاء الذين يعتبرون كل ما وراء القراءات السبع شاذا ... والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري بل هو رأي أبي شامة في نقل آخر صححه الناقلون عنه وجوزوا أن يكون الرأي الآنف مدسوسا عليه أو قاله أول أمره ثم رجع عنه بعد ولعل من الصواب والحكمة أن أترك الكلام هنا للمحقق ابن الجزري يصول فيه ويجول ويسهب ويطرب واضعا للحق في نصابه دافعا للخطأ وشبهاته فاقرأه واصبر على الإكثار والتطويل فإن الم قام دقيق وجليل ولا ينبئك مثل خبير ٣٥ فاطر ١٤ قال رحمه الله في كتابه منجد المقرئين ابتداء من الصفحة السابعة والخمسين ما نصه: الفصل الثاني في أن القراءات العشر متواترة فرشا وأصولا حال اجتماعهم وافتراقهم وحل مشكل ذلك: اعلم أن العلماء بالغوا في ذلك نفيا وإثباتا وأنا أذكر أقوال كل ثم أبين الحق من ذلك أما من قال بتواتر الفرش دون الأصول فابن الحاجب قال في مختصر الأصول له القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ فزعم أن المد والإمالة وما أشبه ذلك من الأصول كالإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات ونقل الحركة وتسهيل الهمزة من قبيل الأداء وأنه غير متواتر وهذا قول غير صحيح كما سنبينه أما المد فأطلقه وتحته ما يسكب العبرات فإنه إما أن يكون طبيعيا أو عرضيا والطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حروف المد بدونه كالألف من قال والواو من يقول والياء من قيل وهذا لا يقول مسلم بعدم تواتره إذ لا تمكن القراءة بدونه والمد العرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي لموجب إما سكون أو همز فأما السكون فقد يكون لازما كما في فواتح السور وقد يكون مشددا نحو آلم ق ن ولا الضالين ونحوه فهذا يلحق بالطبيعي لا يجوز فيه القصر لأن المد قام مقام حرف توصلا للنطق بالساكن وجمهور المحققين من الناس على مده قدرا سواء وأما الهمز فعلى قسمين الأول إما أن يكون حرف المد في كلمة والهمز في أخرى وهذا تسميه القراء منفصلا واختلفوا في مده وقصره وأكثرهم على المد فادعاؤه عدم تواتر المد فيه ترجيح بلا مرجح ولو قال العكس لكان أظهر لشبهته لأن أكثر القراء على المد. الثاني: أن يكون حرف المد والهمز في كلمة واحدة وهو الذي يسمى متصلا وقد أجمع القراء سلفا وخلفا من كبير وصغير وشريف وحقير على مده لا خلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن بعض من لا يعول عليه بطريق شاذة فلا تجوز القراءة به حتى إن إمام الرواية أبا القاسم الهذلي الذي دخل المشرق والمغرب وأخذ القراءة عن ثلاثمائة وخمسة وستين شيخا وقال رحلت من آخر المغرب إلى فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا.. وألف كتابه الكامل الذي جمع فيه بين الذرة وأذن الجرة من صحيح وشاذ ومشهور ومنكر قال في باب المد في فصل المتصل: لم يختلف في هذا الفصل أنه ممدود على وتيرة واحدة فالقراء فيه على نمط واحد وقدروه بثلاث ألفات إلى أن قال: وذكر العراقي أن الاختلاف في مد كلمة واحدة كالاختلاف في مد كلمتين ولم أسمع هذا لغيره وطالما مارست الكتب والعلماء فلم أجد من يجعل مد الكلمة الواحدة كمد الكلمتين إلا العراقي قلت: والعراقي هو منصور بن أحمد المقرىء كان بخراسان ولقد أخطأ في ذلك وشيوخه الذين قرأ عليهم نعرفهم الإمام أبو بكر بن مهران وأبو الفرج الشنبوذي وإبراهيم بن أحمد المروزي ولم يرو عنهم شيء من ذلك في طريق من الطرق فإذا كان ذلك يجسر ابن الحاجب أو من هو أكبر منه على أن يقدم على ما أجمع عليه فيقول هو غير متواتر فهذه أقسام المد العرضي أيضا متواترة لا يشك في ذلك إلا جاهل وكيف يكون المد غير متواتر وقد أجمع عليه الناس خلفا عن سلف فإن قيل قد وجدنا القراء في بعض الكتب كالتيسير للحافظ الداني وغيره جعل لهم فيما مد للهمز مراتب في المد إشباعا وتوسطا وفوقه ودونه وهذا لا ينضبط إذ المد لا حد له وما لا ينضبط كيف يكون متواترا قلت: نحن لا ندعي أن مراتبه متواترة وإن كان قد ادعاه طائفة من القراء والأصوليين بل نقول إن المد العرضي من حيث هو متواتر مقطوع به قرأ به النبي وأنزله الله تعالى عليه وأنه ليس من قبيل الأداء فلا أقل من أن نقول القدر المشترك متواتر وأما ما زاد على القدر المشترك كعاصم وحمزة وورش فهو إن لم يكن متواترا فصحيح مستفاض متلقى بالقبول ومن ادعى تواتر الزائد على القدر المشترك فليبين وأما الإمالة على نوعيها فهي وضدها لغتان فاشيتان من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن مكتوبتان في المصاحف متواترتان وهل يقول أحد في لغة أجمع الصحابة والمسلمون على كتابتها في المصاحف إنها من قبيل الأداء؟! وقد نقل الحافظ الحجة أبو عمرو الداني في كتابه إيجاز البيان الإجماع على أن الإمالة لغة لقبائل العرب دعاهم إلى الذهاب إليها التماس الخفة وقال الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل: إن الإمالة والتفخيم لغتان ليست إحداهما أقدم من الأخرى بل نزل القرآن بهما جميعا إلى أن قال: والجملة بعد التطويل أن من قال إن الله تعالى لم ينزل القرآن بالإمالة أخطأ وأعظم الفرية على الله تعالى وظن بالصحابة خلاف ما هم عليه من الورع والتقى قلت: كأنه يشير إلى كونهم كتبوا بالإمالة في المصاحف نحو يحيى وموسى وهدى ويسعى والهدى ويغشيها وجليها وآسى وآتيكم وما أشبه ذلك مما كتبوه بالياء على لغة الإمالة وكتبوا مواضع تشبه هذا بالألف على لغة الفتح منها: قوله عز وجل في سورة إبراهيم ومن عصاني فإنك غفور رحيم ١٤ إبراهيم ٣٦ حتى إنهم كتبوا تعرفهم بسيميهم في البقرة بالياء وكتبوا سيماهم في وجوههم بالألف وأي دليل أعظم من ذلك قال الهذلي: وقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة والتفخيم وذكر أشياء ثم قال: وما أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة قلّت أو كثرت إلى أن قال: وهي يعني الإمالة لغة هوازن وبكر بن وائل وسعد بن بكر وأما تخفيف الهمزة ونحوه من النقل والإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات فمتواتر قطعا معلوم أنه منزل من الأحرف السبعة ومن لغات العرب الذين لا يحسنون غيره وكيف يكون غير متواتر أو من قبيل الأداء وقد أجمع القراء في مواضع على الإدغام في مثل مدكر أثقلت دعوا الله ربهما مالك لا تأمنا على يوسف وكذلك أجمع القراء في مواضع على تخفيف الهمز نحو آلآن آلله آلذكرين في الاستفهام وفي مواضع على النقل نحو لكنا هو الله ربي ويرى ونرى وعلى ترقيق الراءات في مواضع نحو فرعون ومرية وعلى تفخيم اللامات في مواضع نحو اسم الجلالة بعد الضمة والفتحة وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على كتابة الهمزة الثانية من قوله تعالى في آل عمران أؤنبئكم بواو قال أبو عمرو الداني وغيره: إنما كتبوا ذلك على إرادة تسهيل الهمزة بين بين اهـ وكيف يكون ما أجمع عليه القراء أمما عن أمم غير متواتر وإذا كان المد وتخفيف الهمز والإدغام غير متواتر على الإطلاق فما الذي يكون متواترا؟! أقصر آلم ودابة وأولئك الذي لم يقرأ به أحد من الناس أم تخفيف همزة آلذكرين آلله الذي أجمع الناس على أنه لا يجوز وأنه لحن أم إظهار مدكر الذي أجمع الصحابة والمسلمون على كتابته وتلاوته بالإدغام فليت شعري من الذي تقدمه قبل بهذا القول فقفى أثره والظاهر أنه لما سمع قول الناس إن التواتر فيما ليس من قبيل الأداء ظن أن المد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه من قبيل الأداء فقال غير مفكر فيه وإلا فالشيخ أبو عمرو لو فكر فيه لما أقدم عليه أو لو وقف على كلام إمام الأصوليين من غير مدافعة القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني في كتاب الانتصار حيث قال جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم استفاض نقله ولم يدخله في حكم الشذوذ بل رآه سائغا جائزا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف وإمالة أو ترك ذلك كله أو شيء منه أو تقديم أو تأخير فإنه كله منزل من عند الله تعالى ومما وقف الصحابة على صحته وخير بينه وبين غيره وصوب للجميع القراءة به قال: ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول والصحابة أو غير ذلك لسوغنا لهم الخروج على قراءة الرسول ثم أطال رحمه الله الكلام على تقدير ذلك وجوز أن يكون النبي أقرأ واحدا بعض القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القراء اهـ قلت: وظهر من هذا أن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع قد أخذه الصحابي كذلك من رسول الله وأقرأه كذلك إلى أن اتصل بالقراء نحو قراءة حفص مجريها بالإمالة فقط ولم يمل في القرآن غيره، وقراءة ابن عامر إبراهام في مواضع محصورة وقراءة أبي جعفر يحزن في الأنبياء فقط بضم الياء وكسر الزاي وفي باقي القرآن بفتح الياء وضم الزاي وقراءة نافع عكسه في جميع القرآن بضم الياء وكسر الزاي إلا في الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي وشبه ذلك مما يقول القراء عنه جمع بين اللغتين وليت الإمام ابن الحاجب أخلى كتابه من ذكر القراءات وتواترها كما أخلى غيره كتبهم منها وإذ قد ذكرها فليته لم يتعرض إلى ما كان من قبيل الآداء وإذ قد تعرض فليته سكت عن التمثيل فإنه إذا ثبت أن شيئا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترا عن النبي كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن رسول الله فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجها ولا بعشرين ولا بنحو ذلك وإنما إن صح شيء منها فوجه والباقي لا شك أنه من قبيل الأداء ولما قال ابن السبكي في كتابه جمع الجوامع والسبع متواترة قيل فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه وسئل عن زيادته على ابن الحاجب؟ قيل المقتضية لاختياره أن ما هو من قبيل الأداء كالمد والإمالة إلى آخره متواتر فأجاب رحمه الله في كتابه منع الموانع: أعلم أن السبع متواترة والمد متواتر والإمالة متواترة كل هذا بين لا شك فيه وقول ابن الحاجب فيما ليس من قبيل الأداء صحيح لو تجرد عن قوله كالمد والإمالة لكن تمثيله بهما أوجب فساده كما سنوضحه من بعد فلذلك قلنا قيل ليتبين أن القول بأن المد والإمالة والتخفيف غير متواترة ضعيف عندنا بل هي متواترة ثم أخذ يذكر المد والإمالة والتخفيف إلى أن قال: فإذا عرفت ذلك فكلامنا قاض بتواتر السبع ... ومن السبع مطلق المد والإمالة وتخفيف الهمز بلا شك أما من قال إن القراءات متواترة حال اجتماع القراء لا حال افتراقهم فأبو شامة قال في المرشد الوجيز في الباب الخامس منه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارىء من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة وغيرهم الجمع بين الساكنين في تاءات البزي وإدغام أبي عمرو وقراءة حمزة فما استطاعوا وتسكين من أسكن بارئكم ونحوه وسبأ ويابني ومكر السيىء وإشباع الياء في يرتع ويتقي ويبصر وأفئيدة من الناس وقراءة للملائكة اسجدوا بضم الهمزة وهمز ساقها وخفض والأرحام في أول النساء ونصب كن فيكون والفصل بين المتضايفين في الأنعام وغير ذلك إلى أن قال: فكل ذلك محمول على قلة ضبط الرواة فيه ثم قال: إن صح النقل فيه فهو من بقايا الأحرف السبعة التي كانت القراءة المباحة عليه على ما هو جائز في العربية فصيحا كان أو دون ذلك وأما بعد كتابة المصاحف على اللفظ المنزل فلا ينبغي قراءة ذلك اللفظ إلا على اللغة الفصحى من لغة قريش وما نسبها حملا لقراءة النبي والسادة من أصحابه على ما هو اللائق فإنهم إنما كتبوه على لغة قريش فكذا قراءتهم به قال: وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي في كل فرد فرد ممن روى عن هؤلاء الأئمة السبعة قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله تعالى واجب قال: ونحن بهذا نقول لكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها فانظر يا أخي إلى هذا الكلام الساقط الذي خرج من غير تأمل المتناقض في غير موضع في هذه الكلمات اليسيرة أوقفت عليه شيخنا الإمام ولي الله تعالى أبا محمد بن محمد بن محمد الجمالي رضي الله عنه فقال: ينبغي أن يعدم هذا الكتاب من الوجود ولا يظهر ألبتة وإنه طعن في الدين قلت: ونحن يشهد الله أننا لا نقصد إسقاط الإمام أبي شامة إذ الجواد قد يعثر ولا يجهل قدره بل الحق أحق أن يتبع ولكن نقصد التنبيه على هذه الزلة المزلة ليحذر منها من لا معرفة له بأقوال الناس ولا اطلاع له على أحوال الأئمة أما قوله فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة الخ فغير لائق بمثله أن يجعل ما ذكره منكرا عند أهل اللغة وعلماء اللغة والإعراب الذين عليهم الاعتماد سلفا وخلفا يوجهونها ويستدلون بها وأنى يسعهم إنكار قراءة تواترت أو استفاضت عن رسول الله إلا نويس لا اعتبار بهم لا معرفة لهم بالقراءات ولا بالآثار جمدوا على ما علموا من القياسات وظنوا أنهم أحاطوا بجميع لغات العرب أفصحها وفصيحها حتى لو قيل لأحدهم شيء من القرآن على غير النحو الذي أنزل الله يوافق قياسا ظاهرا عنده ولم يقرأ بذلك أحد لقطع له بالصحة كما أنه لو سئل عن قراءة متواترة لا يعرف لها قياسا لأنكرها ولقطع بشذوذها حتى إن بعضهم قطع في قوله عز وجل: مالك لا تأمنا بأن الإدغام الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون لحن وأنه لا يجوز عند العرب لأن الفعل الذي هو تأمن مرفوع فلا وجه لسكونه حتى يدغم في النون التي تليه فانظر يا أخي إلى قلة حياء هؤلاء من الله تعالى يجعلون ما عرفوه من القياس أصلا والقرآن العظيم فرعا حاشا العلماء المقتدى بهم من أئمة اللغة والإعراب من ذلك بل يجيئون إلى كل حرف مما تقدم ونحوه يبالغون في توجيهه والإنكار على من أنكره حتى إن إمام اللغة والنحو أبا عبد الله محمد بن مالك قال في منظومته الكافية الشافية في الفصل بين المتضايفين: وعمدتي قراءة ابن عامر فكم لها من عاضد وناصر ولولا خوف الطول وخروج الكتاب عن مقصوده لأوردت ما زعم أن أهل اللغة أنكروه وذكرت أقوالهم فيها ولكن إن مد الله في الأجل لأضعن كتابا مستقلا في ذلك يشفي القلب ويشرح الصدر أذكر فيه جميع ما أنكره من لا معرفة له بقراءة السبعة والعشرة ولله در الإمام أبي نصر الشيرازي حيث حكى في تفسيره عند قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ٤ النساء ١ كلام الزجاجي في تضعيف قراء الخفض ثم قال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي فمن رد ذلك فقد رد على النبي واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محظور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه فإنا لا ندعي أن كل ما في القراءات على أرفع الدرجات من الفصاحة. وقال الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان عند ذكر إسكان بارئكم ويأمركم لأبي عمرو بن العلاء: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبتت عندهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة فلزم قبولها والمصير إليها قلت: ثم لم يكف الإمام أبا شامة حتى قال: فكل ذلك يعني ما تقدم محمول على قلة ضبط الرواة لا والله بل كله محمول على كثرة الجهل ممن لا يعرف لها أوجها وشواهد صحيحة تخرج عليها كما سنبينه إن شاء الله تعالى في الكتاب الذي وعدنا به آنفا إذ هي ثابتة مستفاضة ورواتها أئمة ثقات وإن كان ذلك محمولا على قلة ضبطهم فليت شعري أكان الدين قد هان أهله حتى يجيء شخص في ذلك الصدر يدخل في القراءة بقلة ضبطه ما ليس منها فيسمع منه ويأخذ عنه ويقرأ به في الصلاة وغيرها ويذكره الأئمة في كتبهم ويقرؤون به ويستفاض ولم يزل كذلك إلى زماننا هذا لا يمنع أحد من أئمة الدين القراءة به مع أن الإجماع منعقد على أن من زاد حركة أو حرفا في القرآن أو نقص من تلقاء نفسه مصرا على ذلك يكفر والله جل وعلا تولى حفظه لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه ٤١ فصلت ٤٢ وأعظم من ذلك تنزله إذ قال: وعلى تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة لا ينبغي قراءتها حملا لقراء النبي وأصحابه على ما هو اللائق بهم فإذا كان النبي وأصحابه رضوان الله عليهم لم يقرؤوا بها مع تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة فمن أوصلها إلى هؤلاء الذين قرؤوا بها ثم يقول: فلا أقل من اشتراط ذلك يعني اشتراط الشهرة والاستفاضة قلت ألا تنظرون إلى هذا القول ثم أأحد في الدنيا يقول إن قراءة ابن عامر وحمزة وأبي عمرو ومن اجتمع عليه أهل الحرمين والشام أبي جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وقراءة البزي وقنبل وهشام إن تلك غير مشهورة ولا مستفاضة وإن لم تكن متواترة هذا كلام من لم يدر ما يقول حاشا الإمام أبا شامة منه وأنا من فرط اعتقادي فيه أكاد أجزم بأنه ليس من كلامه في شيء ربما يكون بعض الجهلة المتعصبين ألحقه بكتابه أو أنه ألف هذا الكتاب أول أمره كما يقع لكثير من المصنفين وإلا فهو في غيره من مصنفاته كشرحه على الشاطبية بالغ في الانتصار والتوجيه لقراءة حمزة والأرحام بالخفض والفصل بين المتضايفين ثم قال في الفصل: ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في الكلام مثله لأنه ناف ومن أسند هذه القراءة مثبت والإثبات مرجح على النفي بالإجماع قال: ولو نقل إلى هذا الزاعم عن العرب أنه استعمله في النثر لرجع عن قوله فما باله ما يكتفي بناقلي القراءة من التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم ثم أخذ في تقرير ذلك قلت: هذا الكلام مباين لما تقدم وليس منه في شيء وهو الأليق بمثله رحمه الله ثم قال أبو شامة في المرشد بعد ذلك القول: فالحاصل أنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها قلت: ونحن كذلك لكن في القليل منها كما تقدم في الباب الثاني قال: وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو ونقل الحركة لورش وصلة ميم الجمع وها الكناية لابن كثير أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي في كل فرد فرد من ذلك ومن ثم تسكب العبرات فإنها من ثم لم ينقلها إلا آحاد إلا اليسير منها قلت: هذا من جنس ذلك الكلام المتقدم أوقفت عليه شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي: معذور أبو شامة حيث إن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا وإلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤونها أخذوها أمما عن أمم ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها.. روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون سند فلان وقراءة فلان قلت: وذلك خوفا مما توهمه أبو شامة من القراءة إذا نسبت إلى شخص تكون آحادية ولم يدر أن كل قراءة نسبت إلى قارىء من هؤلاء كان قراؤها زمن قارئها وقبله أكثر من قرائها في هذا الزمن وأضعافهم ولو لم يكن انفراد القراء متواترا لكان بعض القرآن غير متواتر لأنا نجد في القرآن أحرفا تختلف القراء فيها وكل منهم على قراءة لا توافق الآخر كأرجه وغيرها فلا يكون شيء منها متواترا وأيضا قراءة من قرأ مالك ويخادعون فكثير من القرآن غير متواتر لأن التواتر لا يثبت باثنين ولا بثلاثة قال الإمام الجعبري في رسالته: وكل وجه من وجوه قراءته كذلك يعني متواترا لأنها أبعاضه ثم قال: فظهر من هذا فساد قول من قال هو متواتر دونها إذ هو عبارة عن مجموعها ثم قال ابن الجزري: ومما يحقق لك أن قراءة أهل كل بلد متواترة بالنسبة إليهم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه جعل البسملة من القرآن مع أن روايته عن شيخه مالك تقتضي عدم كونها من القرآن لأنه من أهل مكة وهم يثبتون البسملة بين السورتين ويعدونها من أول الفاتحة آية وهو قرأ قراءة ابن كثير على إسماعيل القسط عن ابن كثير فلم يعتمد في روايته عن مالك في عدم البسملة لأنها آحاد واعتمد على قراءة ابن كثير لأنها متواترة وهذا لطيف فتأمله فإنني كنت أجد في كتب أصحابنا يقولون إن الشافعي رضي الله عنه روى حديث عدم البسملة عن مالك ولم يعول عليه فدل على أنه ظهرت له فيه علة وإلا لما ترك العمل به قلت: ولم أر أحدا من أصحابنا بين العلة فبينا أنا ليلة مفكر إذ فتح الله تعالى بما تقدم -والله تعالى أعلم- أنها هي العلة مع أني قرأت القرآن برواية إمامنا الشافعي عن ابن كثير كالبزي وقنبل ولما علم بذلك بعض أصحابنا من كبار الأئمة الشافعية قال لي: أريد أن أقرأ عليك القرآن بها ومما يزيدك تحقيقا ما قاله أبو حاتم السجستاني قال: أول من تتبع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها هارون بن موسى الأعور قال: وكان من القراء فكره الناس ذلك وقالوا قد أساء حين ألفها وذلك أن القراءة إنما يأخذها قرون وأمة عن أفواه أمة ولا يلتفت منها إلا ما جاء من راو راو قلت: يعني آحادا آحادا وقال الحافظ العلامة أبو سعيد خليل كيكلدي العلائي في كتابه المجموع المذهب وللشيخ شهاب الدين أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز وغيره كلام في الفرق بين القراءات السبع والشاذة منها وكلام غيره من متقدمي القراء ما يوهم أن القراءات السبع ليست متواترة كلها وأن أعلاها ما اجتمع فيه صحة السند وموافقة خط المصحف الإمام والفصيح من لغة العرب وأنه يكفي فيها الاستفاضة وليس الأمر كما ذكر هؤلاء والشبهة دخلت عليهم مع انحصار أسانيدها في رجال معروفين وظنوها كاجتهاد الآحاد قلت: وقد سألت شيخنا إمام الأئمة أبا المعالي رحمه الله تعالى عن هذا الموضع فقال: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم وكذلك دائما والتواتر حاصل لهم ولكن الأئمة الذين تصدوا لضبط الحروف وحفظوا شيوخهم منها وجاء السند من جهتهم وهذه الأخبار الواردة في حجة الوداع ونحوها أجلى ولم تزل حجة الوداع منقولة فمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر فهذه كذلك وقال: هذا موضع ينبغي التنبه له انتهى والله أعلم.
ذلك ما قاله العلامة ابن الجزري في هذا المقام من كتابه المنجد ولعله فصل الخطاب في هذا الموضوع ولذلك آثرنا أن ننقله إليك محاولين حسن عرضه وضبطه والتعليق عليه مختصرا بقدر الإمكان. اهـ
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٠٨ محرم ١٤٢٥