تنوع الأساليب وتغير الألفاظ في القصص القرآني
السُّؤَالُ
ـأحبتي الكرام أود حل هذا الإشكال الذي يطرأ علي عند قراءتي للقرآن
شيوخنا:
في بعض الآيات تكون بسياق معين وبلفظ معين ثم إذا ذهبت إلى سورة أخرى نفس حدث الآية الماضية ولكن بلفظ آخر تماماً وهذا يكون غالبا إذا تكلم الله على لسان نبي أو شخص آخر وأطرح لكم مثالا كي يكون الأمر لكم واضحا:
قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... )
وقال في آية أخرى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون)
وقال تعالى (يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين) وفي آية أخرى (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي..)
وأيضا هنا (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وفي آية أخرى (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) وفي آية (ءأسجد لمن خلقت طينا) .
فأي الأقوال هي التي قيلت؟
وكذلك قال تعالى (امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون)
وقال في سورة طه (إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى)
وفي سورة النمل (إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون)
فأي الأقوال قال موسى إذ تعددت لدينا الألفاظ؟
وقال تعالى في سورة الأعراف (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ... )
وقال أيضا في سورة الشعراء: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)
وقال في سورة الشمس (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها)
فأيهم قال من هذه الأقوال؟
وكذلك في القرآن كيف نفهم إذا مر بنا مثل هذه الاختلافات؟
أرجوا التوضيح أحبتي وتفهيمي في هذا الأمر، جعل الله مأواكم الجنة.ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من أساليب القرآن الكريم في عرض القصص تنويع أساليبها وتغيير ألفاظها؛ فيورد القصة الواحدة والمعنى الواحد بصور متعددة وأساليب متنوعة وألفاظ مختلفة في غاية من البلاغة والحسن والجمال بحيث لو أردت استبدال لفظ بمرادفه ووضعه في المكان الذي ورد فيه لتنافرت الألفاظ واختل نظام السياق وانسجام المعنى..
وكل ذلك من بلاغة القرآن الكريم التي تحدى بها أهل اللسان العربي وخاصة في عصر نزوله الذي وصل أهله قمة البلاغة والفصاحة..
والقصص المذكورة تعتبر مثالا على ما ذكر فبعضها جاء مجملا في بعض السور لمناسبة أسلوب السورة من الاختصار والطي والإجمال، لأن المقام يقتضي هذا الأسلوب، ولأن بعض العقول يعجبه الإيجاز والاختصار والألفاظ الجزلة.. وبعضها يميل إلى البسط والتفصيل والألفاظ اللينة السهلة.. فتأتي القصة في سورة أخرى بشيء من البسط والتفصيل المناسب لأسلوب السورة وهكذا، فما أجمل في سورة بين في أخرى، وما أهمل في سورة ذكر في أخرى مع الاحتفاظ التام بالمعنى وكل ذلك لشحذ الأذهان والحث على التدبر والتعقل لمعاني القرآن الكريم والتنبيه على أهمية الدروس والعظات والعبر التي تضمنتها القصة.
ففي المثال الذي ذكر في قصة آدم - مثلا والتي تضمنت من الدروس والعظات والعبر ما لا يخفى كثير منه على متأمل كما هو مبين في محله من كتب التفسير- نجد أن الله تعالى بين فضل أبي البشر آدم عليه السلام حيث جعله خليفته في أرضه وتعليمه ما لا تعلمه الملائكة.. فطوى ذكر خلقه من التراب والمراحل التي مر بها من الطين والحمإ المسنون إلى الصلصال اليابس....
ثم ذكرت هذه المراحل في سور أخرى بأسلوب آخر لمناسبة المقام وأسلوب تلك السور وهكذا بقية الأمثلة ويمكنك أن تتبعها في كتب التفسير وقصص الأنبياء والبداية والنهاية لابن كثير ...
وأما السؤال: فأي الأقوال.. فغير وارد لأنه من المعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين وكثير من القصص التي جاءت فيه منقولة عن أقوام آخرين ليس لسانهم عربيا، ولسان العرب غني بالألفاظ والعبارات والقرآن الكريم يضع كل لفظ منها في مكانه المناسب وبأسلوبه الرفيع وبيانه البديع دون تحريف ولا تغيير للمعنى؛ فلا اختلاف ولا تناقض فيما ذكرت وما لم تذكر وما عليك إلا أن تتدبر وتتأمل.. وصدق الله العظيم حيث يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً {النساء:٨٢} .
وللمزيد انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: ١٩٠٢، ٦٧٨٨٣، ٥٧٨٤٤.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
١٨ ذو الحجة ١٤٢٩