تهافت الزعم بتناقض آيات الكتاب العزيز
السُّؤَالُ
ـأرجو من فضيلة الشيخ الرد على هذا المقال حيث إنه ينشر في كثير من الأماكن والمنتديات وأردت أن أكبح تلك الحجج الواهيةعن طريق آراء العلماء
جزاكم الله خيرا وجعله في ميزان حسناتكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقال بعنوان: تناقضات في القرآن
نحن هنا أمام وجهين متناقضين للإسلام تجاه أهل الكتاب بأي الوجهين يعمل المسلمون اليوم ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين؟
هل أمام المنتديات الحضارية وفي البلاد المتحضرة وحالات ضعف المسلم يظهر وجه المودة لأهل الكتاب أما في البلاد الإسلامية وفي حالة سيطرة المسلم وقوته فالوجه الآخر هو الوحيد والصحيح؟ هل هناك تفسير لهذا الانقلاب من الضد إلى الضد ومن النقيض إلى النقيص؟ هل تغير إيمان أهل الكتاب وعقيدتهم لا بين مكة والمدينة فقط بل في السورة المدنية الواحدة يقول عنهم القرآن في آياته كلاما معسولا ثم ينقلب عليهم بكلام أمر من العلقم؟
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا (آل عمران ٣: ٩٨-٩٩)
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله ... أولئك من الصالحين (آل عمران٣: ١١٣-١١٤ (
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (آل عمران٣: ١٩٩)
في الآية الأولى من سورة آل عمران يعلن كفر أهل الكتاب وأنهم يبعدون الناس عن طريق الله ويريدونها عوجا ثم في
الآيتين التاليتين من نفس السورة يستثني فئة من أهل الكتاب ويعلن أنهم من الصالحين ولهم أجرهم ففي آية التكفير الأولى عممها وشمل كل أهل الكتاب ثم بعد ذلك خص فئة منهم فكيف ذلك؟
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون (البقرة٦٢:٢)
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم ... (البقرة١٢٠:٢)
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (البقرة١٢١:٢)
وهنا تأمل موقفه من أهل الكتاب في سورة البقرة الآية وسابقتها.
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ... (المائدة١٤:٥)
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم.... (المائدة١٨:٥)
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء (توادونهم) بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (المائدة٥١:٥ (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون (المائدة٦٩:٥)
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ... (المائدة٨٢:٥)
أيوجد تناقض أعظم من هذا في السورة الواحدة؛ الآية (١٤) من المائدة العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة، الآية (١٨) الله يعذب اليهود والنصارى، الآية (٥١) تمنع المسلم من صداقة ومودة اليهود والنصارى، الآية (٦٩) اليهود والنصارى لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الآية (٨٢) اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين والنصارى أقربهم مودة. مواقف متناقضة في السورة الواحدة والفارق بينها آيات قلائل، ترى لماذا هذا التناقض والضد؟ يقال إن السياسة لا تعرف صداقة دائمة أو خصومة دائمة بل أن الصداقة قد تفتر والعداء قد يتلاشى وذلك تبعا لتغير وتباين المصالح والأهداف، هل ينطبق ذلك على مواقف القرآن من أهل الكتاب؟ هل هناك تفسير غير ذلك يرد العقل عن حيرته بسبب هذا التناقض والضد لا بين قرآن مكة والمدينة بل في السورة المدنية الواحدة؟
ويأتي تناقض آخر لأن الله لا مبدل لكلماته!! حسب ما جاء في نفس القرآن:-
لا مبدل لكلمات الله (الأنعام٦: ٣٤)
لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (الكهف١٨: ٢٧)
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (ق ٥٠: ٢٩)
ولكن هذه ليست النهاية لحل هذه المعضلة فآلايات الثلاث اعلاه تناقضها آيات اخرى مثل:-
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر (النحل١٦: ١٠١)
ما ننسخ (نلغي ونغير) من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (البقرة٢: ١٠٦)
ياللمصيبة الله ينسى!!!
ولدي الكثير بعد من التناقضات في ما يدعى كتاب الله!!!
انتهى!ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر السائل الكريم على اهتمامه بدينه وغيرته على كتاب ربه، وننبهه إلى أن كيد الأعداء لهذا الدين العظيم والتشكيك في كتابه والطعن في مبادئه لصرف الناس عنه أمور لا تنتهي. وذلك لقول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ {البقرة:١٢٠} ، وقوله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ {البقرة:٢١٧} ، وقوله تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء {النساء:٨٩} ،
ولكن الله تعالى ناصر دينه وحافظ لكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسوف تتحطم مكائد هؤلاء وترتد سهامهم في نحورهم، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {الأنفال:٣٦} ، وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {الصف:٨} .
ثم إن وسائل التشكيك ودعايات المشككين التي ظهرت في هذ العصر أمرها عجب، فمن العجب أن يدعي التناقض في القرآن ناس جهلة بلغته وأساليبه ولا يفطن لهذا الأمر فصحاء العرب الذين عاصروا تنزل القرآن وكانوا حريصين على الطعن فيه.
فهذا القرآن كلام الله تعالى العليم الخبير ليس فيه شيء من التناقض إطلاقاً، ولو كان فيه شيء من ذلك أو يشبه ذلك لأثاره أعداء هذا الدين الإسلامي قديماً، فقد نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، والعرب في ذلك الوقت بلغوا أقصى الغاية في الفصاحة والبلاغة والنقد، ولم يستطيعوا أن يجدوا في القرآن مطعناً رغم رفضهم لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومحاولاتهم المختلفة أن يظهروا معايب تلك الرسالة ويصدون الناس عنه، نعم قالوا عنه صلى الله عليه وسلم إنه ساحر أو مسحور أو شاعر أو مجنون.
لكن لم يطعنوا في القرآن من حيث أسلوبه وإحكام سبكه؛ بل ان منصفهم يقرُّ أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، وهذا مدون في كتب السير والتاريخ وغيرها، فكيف يأتي الآن من لا يفهم العربية ولا يتكلمها على وجه صحيح فصيح ثم ينتقد هذا الكتاب، فيما لم يمكن لأولئك أن ينتقدوه فيه؟!! أظن أن أي عاقل منصف لا يقبل ذلك.
فكل مما ذكرت في السؤال لا تعارض فيه أصلاً، وإنما حصل التعارض فيه في ذهن صاحب المقال، ولعله لجهله باللغة وأساليبها، أو لتحامله وسعيه في إغواء جهلة المسلمين وإضلالهم.
فهذه الإشكالات لا تنطلي على من عنده علم باللغة ودلالات الالفاظ فما استثني في آيات من حال أهل الكتاب يعتبر من الخاص المخصوص من العموم في الآيات الأخرى، فقد استثني من كان على الدين الصحيح مثل من لقيهم سلمان الفارسي أو من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كالنجاشي وعبد الله بن سلام فقد قال ابن كثير في التفسير عند آية: ليسوا سواء: والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس ـ أن هذه الايات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وغيرهم، أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: ليسوا سواء، أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: من أهل الكتاب أمة قائمة أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة، يعني مستقيمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون أي يقومون الليل ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وهؤلاء هم المذكورون في آخر السور: ة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ... الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه أي لا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء، والله عليم بالمتقين أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً. اهـ.
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ... إلى آخر الآية: وقال السدي: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا الآية: لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه؛ كما قال تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ... إلى آخر الآية، وقال السدي: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ... الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان هم من أهل النار، فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء كان من تمسك بالتوارة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمد اً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً. قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر الآية ـ قال ـ فأنزل الله بعد ذلك: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة،...... فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى،..... فلما بعث الله محمد اً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً...... . .اهـ
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: لتجدن...... الآية: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن، بكوا حتى أخضلوا لحاهم، وهذا القول فيه نظر، لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي: فهاجر النجاشي فمات بالطريق. وهذا من أفراد السدي، فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة. ثم اختلف في عدة هذا الوفد، فقيل: اثنا عشر: سبعة قساوسة وخمسة رهابين. وقيل: بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضع وستون. وقيل: سبعون رجلاً، فالله أعلم. وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين. وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم، فلما رأوا المسلمين، وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية. وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم،.......
فقوله: ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عمر بن علي بن مقدم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين......... وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ... الآية، وهم الذين قال الله فيهم: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ... إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين. ولهذا قال تعالى ههنا: فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار، أي فجزاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ـ أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ـ وذلك جزاء المحسنين أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان.... . اهـ
وأما كلامه في نسيان الله فهو دليل على جهله بلغة العرب وجهله بالفرق بين نسي الثلاثية وأنسى الرباعية فإن الله تعالى منزه عن النسيان، وسائر صفات النقص؛ كما قال تعالى: قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى طه:٥٢ . وقال: وما كان ربك نسيا مريم:٦٤ .
ولكنه سبحانه ينسي غيره إذا شاء، كما أن النسيان يأتي في اللغة بمعنى الترك، ومن جهل لغة العرب التي نزل بها القرآن حق له أن يقع في أنواع الجهالات القبيحة، وصدق من قال:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم.
وأما موضوع النسخ والتبديل راجع فيه الفتاوى التالية أرقامها: ٥٧٣٥٥، ٤٦٦٤٤، ٢٤٦٧٠، ٥٩٢٣٩، ٦٨٣٢٤.
ولكن أهم ما يتعين التنبه له في هذه المسألة أن يستشعر جميع المسلمين الخطر، ويسعوا في أداء واجبهم تجاه دينهم، ويبذل كل من وسعه وطاقته في نصره، فمن الضروري أن يتعلم كل مسلم ما يهمه من أمر دينه، ويتعلم القرآن ويتعلم ما يساعد على تدبره من العلوم المساعدة، ومن الضروري كذلك أن يتعاون المجتمع المسلم على تعلم الشرع، وينشط العلماء في تعليمه للراغبين وغيرهم، وتنتشر الدروس العامة في المساجد وغيرها حتى يستفيد منها المتفرغون للتعلم وغيرهم، ويحرص الجميع على تكوين علماء أجلاء ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ففي الحديث: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. رواه البيهقي وصححه الألباني.
ومن المستحسن الاعتناء بأذكياء الشباب في كل بلد، فتوفر لهم إمكانيات تساعدهم على المواصلة في الدراسة حتى يتعلموا من فروض الكفايات ما تحتاج إليه الأمة، لأن القراءة والكتابة كثيرة الآن نسبة إلى العصور القديمة، ولكن العلم الحقيقي بالشرع قليل والاهتمام بتعلمه بقدر الحاجة قليل، والناس يحتاجون للكيف أكثر من الكم، فلو أن في كل حي من أحياء المسلمين مسجداً فيه إمام ومؤذن على قدر كبير من العلم الشرعي، وكانا نشيطين في تعليم الناس ما يهمهم من أمور دينهم لكان هذا أفضل من وجود كثير من المثقفين الذين يقل فيهم حفظ نصوص الشرع وفهمها، فحبذا لو اعتنت المؤسسات التربوية والراغبون في الخير ببعض الأذكياء وفرغتهم للمواصلة في تعلم علوم الشرع، وأعطتهم حاجياتهم حتى يسعفوا الناس ويزيحوا الشبهات وافكار أهل الزيغ عمن يستهدفون ويسعى أهل الضلال لإضلالهم.
ثم إنا ننبه إلى أن الدخول على المواقع التي يقوم عليها أهل الضلال لا يسوغ لمن كان من العوام في علم الدين لأنه يخشى من التأثر على معتقده ودينه بما ينشر في تلك المواقع، فيخاف عليه أن يصدق بما هو باطل أو أن يكذب بما هو حق، وأما من كان عنده تسلح بالعلم الشرعي وتبصر في أمور الاعتقاد وكان يريد الدخول والمشاركة ليحاور أهل الضلال ويجادلهم بالتي هي أحسن لعل الله يهديهم به فإن هذا هو واجب المسلم المستطيع، قال في مطالب أولي النهى: ١/ ٦٠٧: (ويتجه جواز نظر) في كتب أهل البدع لمن كان متضلعا من الكتاب والسنة مع شدة تثبت وصلابة دين وجودة وفطنة وقوة ذكاء واقتدار على استخراج الأدلة (للرد عليهم) وكشف أسرارهم وهتك أستارهم لئلا يغتر أهل الجهالة بتمويهاتهم الفاسدة فتختل عقائدهم الجامدة، وقد فعله أئمة من الفقهاء المسلمين وألزموا أهلها بما لم يفصحوا عنه جوابا، وكذلك نظروا في التوراة واستخرجو منها ذكر نبينا في محلات وهو متجه. انتهى.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
١٤ ربيع الثاني ١٤٢٩