دفاع عن الإمام أحمد بن حنبل وتبرأته مما نسب إليه من التأويل
السُّؤَالُ
ـمنذ أن أكرمني الله بالالتزام بديني وأنا أتعرض لقضايا الخلافات في العقيدة ما بين العقيدة السلفية والأشعرية، حتى اطمئن قلبي للعقيدة السلفية، لكني قرأت مرة في البداية والنهاية في ترجمة الإمام أحمد إمام أهل السنة رحمه الله ما نصه في المجلد ١٠/٣٦١ "وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: (وجاء ربك) الفجر: ٢٢ أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه." فإن كان الإمام أحمد وهو من أبعد الناس عن التأويل تأول المجيئ في هذه الآية فلِمَ يشتد النكير على الأشاعرة، وإن كان الأمر من الخلافات المعتبرة فلِمَ لا يعذر بعضنا بعضا فيها؟ وجزاكم الله خيراً.ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن نسبة هذا الكلام للإمام أحمد غير صحيحة ولا يعرف عنه مثل هذا التأويل، ويدل لذلك أن الأشعري ذكر في كتابه الابانة -الذي عدل فيه عن منهجه الكلامي في التأويل ورجع لمنهج السلف- ذكر أنه يدين بما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ولم يذكر التأويل في المجيء فقد، قال رحمه الله: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيع الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم ... انتهى.
ثم ذكر الأشعري رحمه الله مسائل العقيدة وقال في مسألة المجيء: ونقول: إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما قال سبحانه: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.
وقد تكلم في تفسير الآية كثير من المفسرين الذين أبوا عن التأويل فيها والذين مالوا للتأويل ولم نر منهم من نسب هذا القول للإمام أحمد حتى ابن كثير الذي نقلت كلامه في البداية، وقد فند الشيخ عمرو بن عبد المنعم سليم نسبة التأويل للإمام أحمد في رده على السقاف في كتاب (لا دفاعاً عن الألباني فحسب بل دفاعاً عن السلفية) قال: الجواب عما نسبه السقاف إلى الإمام أحمد -رحمه الله- من التأويل وقد نسب السقاف التأويل -أيضاً- إلى الإمام أحمد في أربعة مواضع: قال: (روى الحافظ البيهقي في كتابه (مناقب الإمام أحمد) وهو كتاب مخطوط ومنه نقل الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) (١/٣٢٧) ، فقال: روى البيهقي عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأول قوله تعالى: وجاء ربك أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي، وهذا إسناد لا غبار عليه. انتهى. كلام ابن كثير، وقال ابن كثير أيضاً في (البداية) (١٠/٣٢٧) : وكلامه -أحمد- في نفي التشبيه، وترك الخوض في الكلام، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي؟ وعن أصحابه. اهـ
قلت: ومثل هذا لا يصح عن الإمام أحمد، وإن ورد عنه بإسناد رجاله ثقات، من وجهين:
أولهما: أن راويه عنه هو حنبل بن إسحاق، وهو وإن كان ثقة، ومن تلاميذ الإمام أحمد -وابن عمه- إلا أنه يغرب ويتفرد عنه ببعض المسائل، قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- في السير (٣/٥٢) : له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب. ونقل العليمي في المنهج الأحمد (٢٤٥/١) : عن أبي بكر الخلال قوله: قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بشيء يسير، وإذا نظرت في مسائله شبهتها في حسنها وإشباعها وجودتها بمسائل الأثرم. قلت: فإن صح هذا الخبر عن حنبل، فيكون قد أغرب به على أبي عبد الله -رحمه الله- فإن المحفوظ عنه إمرار النص على وجهه، والتصديق، وعدم التأويل.
ثم وقفت بعد ذلك على كلام لابن رجب الحنبلي في شرحه على البخاري المسمى بـ (فتح الباري) (في دفع هذه النسبة، فقال رحمه الله (٩/٢٧٩) في معرض الكلام على حديث النزول: ومنهم من يقول: هو إقبال الله على عباده، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم، ولكن يردُّ ذلك: تخصيصه بالسماء الدنيا، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات، وقد مال إليه في حديث النزول -خاصة- طائفة من أهل الحديث منهم: ابن قتيبة والخطابي وابن عبد البر وقد تقدم عن مالك، وفي صحته عنه نظر، وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا، وخرجوا عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى: وجاء ربك. أن المراد: وجاء أمر ربك. وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبد الله الإتيان، أنه قال: تأتي قدرته، قال: وهذا على حد التوهم من قائله، وخطأ في إضافته إليه.
حتى قال: والفرقة الثالثة: أطلقت النزول كما ورد، ولم تتعد ما ورد، ونفت الكيفية عنه، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق، وهذا قول أئمة السلف: حماد بن زيد وأحمد فإن حماد بن زيد سئل عن النزول فقال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء، وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم، قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا، أتقن الحديث على ما روي بلا كيف ولا حدَّ، إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب، فقال الله عز وجل: فلا تضربوا لله الأمثال. ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هارب.
ثانيهما: أن هذه الرواية الأخيرة تدل على مذهب الإمام أحمد في حديث النزول، وهي موافقة لسائر الروايات عنه في ذلك، مما يدل على أن الرواية الأولى من المفاريد والغرائب عنه فهي غير مقبولة، ثم إن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ البداية والنهاية، وهي النسخة المصرية، وباقي النسخ لم يرد فيها هذا الخبر، فثبوته محل نظر. انتهى.
هذا وننصحك بكثرة مخالطة العلماء، ودراسة الشرع دراسه مرتبطة بالدليل، وسؤال العلماء عما أشكل عليك مما اختلف فيه، وأكثر قيام الليل، وادع في استفتاح القيام بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح به دائماً، كما في حديث عائشة: أنه كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. أخرجه مسلم.
وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية مع إحالاتها: ٦٤٢٧٢، ٥٥٠٦٦، ٥٥٦١٩، ٥٥٠١١، ٥٠٢١٦، ٤٨٦٨٩، ٧٤٠٠٧، ٧٢٨١٢، ٧٠٩٥٨، ٦٦٣٣٢، ٩٩٦٢٤، ١٧٩٦٧، ٧٢٨١٣.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
١٨ جمادي الأولى ١٤٢٩