جواب شبهة حول قوله تعالى (وفديناه بذبح عظيم)
السُّؤَالُ
ـأحد النصارى ذكر لي ما يلي: أننا نؤمن بأن المسيح هو الذبيحة الكاملة والعظيمة أتى لكي يفدي البشرية كلها، ثم ادعى أن في القرآن الكريم ما يدل على ذلك في سورة الصافات (١٠٧) {وفديناه بذبح عظيم} ، وهذا الذبيح هو الله متجسد في المسيح لأن العظمة لله وحده، فما هو الرد على هذه الشبهة، وما هو المغزى من إرسال الكبش لإبراهيم على الرغم من تأكد الله من طاعته له؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قوله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {الصافات:١٠٧} ، ورد في سياق قصة فداء الله تعالى لنبيه إسماعيل عليه السلام، والقصة مذكورة كاملة في سورة الصافات من الآية ٨٣ إلى الآية ١١٣، وليس فيها ذكر لنبي الله عيسى عليه السلام، وهذه الشبهة من تدليس النصارى وجهلهم، والقرآن الكريم نص بصريح العبارة على أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، قال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {النساء:١٥٦-١٥٧-١٥٨} .
وأما قولهم إن العظمة لله وحده، فإن لله عظمة تليق بجلاله سبحانه، ولبعض المخلوقين عظمة تليق بهم، ولا تشبه عظمة الله تعالى، وقد وصف الله تعالى عدة مخلوقات بالعظمة، كوصفه سبحانه للعذاب بذلك في آيات كثيرة حيث يقول: عَذَابٌ عَظِيمٌ البقرة (٧-١١٤) ، آل عمران (١٠٥-١٧٦) وغيرها كثير، ووصف سبحانه الأجر بالعظمة: أَجْرٌ عَظِيمٌ. آل عمران (١٧٦-١٧٩) ، بل وصف الإثم بذلك فقال سبحانه: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) {النساء: ٤٨} ، ووصف بها ملك آل إبراهيم فقال: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا {النساء:٥٤} ، بل إنه سبحانه وصف اتهام اليهود لمريم عليها السلام بالفاحشة بالبهتان العظيم، كما مر معنا في الآيات السابقة، حيث قال سبحانه: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا {النساء:١٥٦} ، ووصف السحر بذلك، فقال الله تعالى عن سحرة فرعون: قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ {الأعراف:١١٦} ، ووصف بذلك عرش بلقيس، فقال سبحانه وتعالى: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {النمل:٢٣} ، ووصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {القلم:٤} ، إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه في هذه الفتوى.
وأما الحكمة من إرسال الله تعالى الفداء لإبراهيم عليه السلام مع أن الله تعالى يعلم طاعته له، فإن هذا من ابتلاء الله تعالى لعباده، فإن الله عز وجل لعدله لا يحاسب الناس على ما يعلمه منهم، وإنما على عملهم، وهذا الابتلاء لم يكن خاصاً بإبراهيم لوحده، بل ابتلاء لإبراهيم ولإسماعيل عليهما السلام، وقد نجحا في هذا الابتلاء نجاحاً باهراً، ولهذا قال سبحانه وتعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {الصافات:١٠٤:١١١} .
قال ابن كثير في تفسيره: قوله تعالى (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.... وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على عزمه على ذلك، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ. أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فيسارع إلى ذلك مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته، ولهذا قال الله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. انتهى.
وفي الختام ننصح الأخ بأن يصون دينه عن الشبهات، فلا يستمع إليها، لأن الشبهة قد تستقر في قلبه ولا يستطيع دفعها لضعف إيمانه أو قلة علمه أو للأمرين معاً، وقد نص العلماء على تحريم النظر في كتب أهل الكتاب لما فيها من التحريف، فكيف بالاستماع إلى شبهاتهم، وللمزيد من الفائدة والتفصيل حول عقيدة النصارى راجع الفتوى رقم: ١٠٣٢٦، والفتوى رقم: ٢٩٣٤٧ والفتاوى المتفرعة عنهما.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٤ ذو الحجة ١٤٢٦