تفسير قوله تعالى: فتبارك الله أحسن الخالقين.
السُّؤَالُ
ـفتبارك الله أحسن الخالقين، فهل من خالق غير الله؟ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان المقصود السؤال عن معنى الآيتين فنذكر بعض كلام علماء التفسير عنهما، ففي زاد المسير لابن الجوزي: فإن قيل كيف الجمع بين قوله أحسن الخالقين وقوله هل من خالق غير الله فاطر، فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإيجاد ولا موجد سوى الله ويكون بمعنى التقدير كقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ * ـض القوم يخلق ثم لا يفري ... فهذا المراد ها هنا أن بني آدم قد يصورون ويقدرون ويصنعون الشيء فالله خير المصورين والمقدرين، وقال الأخفش الخالقون: ها هنا هم الصانعون فالله خير الخالقين. انتهى.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه، قال جبير في هرم بن سنان: ولأنت تفري ماخلقت وبعـ * ـض القوم يخلق ثم لا يفري ... وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها من بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزويج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام، فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ، وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه.
وقال الغزالي في المقصد الأسني: لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغاً ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم أي الخالق عليه مجازاً.
فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع بعض العباد مشروطاً بهذه الحالة النادرة، ومع ذلك جعله مجازاً بعيداً فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ. وقول الله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي. فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك، قال تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. انتهى.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٠٢ رجب ١٤٢٨