كما تَدِينُ تُدَان
السُّؤَالُ
ـ (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) ماذا يدل على صحة هذه المقولة من الدين؟ـ
الْجَوَابُ
الحمد لله
(كما تدين تدان) ، أو (الجزاء من جنس العمل) ، حكمة بليغة تناقلها الناس قديما، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالة على صدقها، فهي سنة كونية جعلها الله سبحانه وتعالى عظة وعبرة للناس.
يقول ابن القيم رحمه الله في "مفتاح دار السعادة" (١/٧١) :
" تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل " انتهى.
وروى عبد الرزاق في "المصنف" (١١/١٧٨) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ)
قال الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (١٣/٤٦٦) : " مرسل، ورجاله ثقات " انتهى.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
وعن مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ)
رواه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" (٩٨)
قال ابن قتيبة رحمه الله: ويقولون "كما تَدِينُ تُدان" أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، وهو من قولهم: "دِنْتُه بما صَنَعَ" أي: جازيته.
قال في لسان العرب (١٣/١٦٤) : " أي: كما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجَازَى بفعلك وبحسب ما عملت " انتهى.
وهي قاعدة عظيمة مطردة في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك:
فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال في سورة البقرة:
(وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقابا من جنس عملهم، فقال سبحانه:
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) البقرة/١٤-١٥
وقال تعالى في سورة التوبة:
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة/٧٩
قال ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (٤/١٢٨) :
" قوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل " انتهى.
وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المائدة/٣٨
" أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل " انتهى.
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن/٦٠
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (٣/٥٢٨) :
" لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته " انتهى.
كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مشاكل ومناسب للعمل نفسه، ومن ذلك:
قوله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة/٤٠
وقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) البقرة/١٥٢
وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد/٧
وقوله سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النور/٢٢
يقول ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (٣/٣٦٨) :
" فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك " انتهى.
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ)
رواه أبو داود (٤٩٤١) وصححه الألباني في صحيح أبي دواد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ) رواه الترمذي (٢٥١٦) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ) رواه البخاري (٢٤٤٢) ومسلم (٢٥٨٠)
قال ابن رجب "جامع العلوم والحكم" (١/٣٣٨) :
" هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى " انتهى.
ومن ذلك أيضا ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قول الله تعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: (أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قَالَت: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ) رواه البخاري (٤٨٣٠) ومسلم (٢٥٥٤) .
وقد جاء في السنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسب ومشاكل لها، فمن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم:
(مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ)
رواه الترمذي (١٩٧٨) وقال: حسن غريب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ)
رواه الترمذي (١٩٤٠) وقال: حسن غريب.
ومنه ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ)
رواه الترمذي (٢٦٤٩) وقال: حديث حسن.
قال المناوي في "فيض القدير" (٦/١٤٦) : " الحديث خرج على مشاكلة العقوبة للذنب " انتهى
وهكذا كلما تأملت في نصوص الوحي، وفي حوادث التاريخ، وفي سنن الله في أرضه، تجد أنها لا تتخلف عن هذه السنة (الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان) ، وذلك من مقتضى عدله وحكمته سبحانه وتعالى، فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز:
فَلا تَجزَعنَ مِن سُنَّةٍ أَنتَ سِرتَها وَأَوَّلُ راضي سُنَّةٍ مِن يَسيرُها
والله أعلم.
الْمَصْدَرُ
الإسلام سؤال وجواب